حقيقة!
إن استنشاق الهواء في يوم ربيعي ماطر، عادةً ما تذكرنا رائحته في إحدى الذكريات التي حدثت في جوٍ يشابه هذا الجو، أو قد نطير إلى عالم الخيال فنتخيلُ أموراً وأشخاصاً وصوراً وحياةً كاملة!
ليست رائحة المطر وحدها هي المثيرة، بل قد يذكرنا شتاء قارص بلحظة معينة، وقصة خاصة، وقد يأخذنا التفكير إلى رسم خطوطٍ خيالية عن الأحداث وإظهارها بشكل مختلف!
إن الروائح ليست هي المثير الوحيد لمشاعرنا وخيالاتنا، بل إن جميع الفنون الإيقاعية والصورية والتشكيلية تثير مشاعرنا وتحفزها بشكلٍ أو بآخر! ألسنا نتوقف طويلاً أمام البحر، وأمام عصفور صغير يتعلم الطيران، وأمام لوحة فنية معلقة على أحد الجدران!
ألسنا نستمع إلى إيقاعاتٍ مختلفة وأصوات متنوعة، ثم نعيدها مرات تلو المرات ونغرق في بحر من الصور والخيالات من الماضي ومن الواقع ومن الخيال!
وبقدر ما نستشعر من تأثير- سواء تجسّد التأثير في صورة دمعة حائرة، أو ابتسامة طموحة، أو ملامحٍ جامدة، أو لهفة، أو خوف، أو تطلع وترقب وحماس، أو تصميم وإرادة، فإن ذلك التأثير يصبح جزءاً من الذكريات.
فإذا ما استمعت إلى أنشودة معينة؛ فإن ما يستثيرك قد يكون اللحن واجتماع صوت المنشد والمؤثرات وتناغمها، وهذا ما يُسمى بالاستثارة الحسية المباشرة. أما الاستثارة الحسية غير المباشرة فهي تحدث عندما تجد نفسك مأخوذاً بالكلمات لا اللحن والأصوات، أي عندما تنتشلك كلمات الأنشودة من واقعك وتذكرك بأمر ما أو حدث، أو تجعلك تفكر في واقع معين أو تجربة قديمة.
فكرة جديدة!
قد لا نحتاج إلى شاطئ نظيف وسماء صافية وعصفور ذو ألوان غريبة حتى نستثير حواسنا، نعم نحن لسنا مضطرين إلى السفر وزيارة جنيف أو جميع شطئان العالم الساحرة كي نكون عباقرة ونحقق صفاء الذهن. بل إن كثيراً من الأشياء والأحداث والأماكن والسيارة والمكتب والسماء، وحتى ازدحام الطرق ووسائل المواصلات، جميعها تعد مثيرات حسية بغض النظر عن نوع ما تُوَلِّده لدى الشخص من أحاسيس، المهم هو أن لا نتجاهلها أو نكتفي بالتذمر منها، بل لا بد أن نطيل النظر ونرهف السمع ونتحسس الأشياء ونحاول أن نستمتع بذلك.
مثلاً؛لننظر إلى السماء في يوم مُغبرّ ولنقل: "منظر السماء له هيبة عجيبة تذكرني بجبروت الله عز وجل، سبحان الله ما أعظمه! إن ذلك المنظر يدفعني دائماً إلى التفكير في طرق وأساليب جديدة أتقرب بها إلى الله وأكسب بها حبه ورضاه" ثم حوِّل بصرك إلى الأرض وقل: "إن هذا الغبار الذي غطى الأرض في لحظة واحدة، بالتأكيد هناك طريقةٌ لمسحهِ عن الأرض بلحظةٍ واحدة دون الحاجة إلى مكنسةٍ يدوية أو كهربائية!" ثم ابدأ في إعمال العقل وفكر ما هو الشيء الذي قد يمسح الغبار عن الأرض في لحظة واحدة؟!
مثل هذا الأسلوب في التفكير ليس صعباً ولا تعجيزياً لكي لا نمارسه يومياً، وإنما المشكلة هي أننا نمارس حياتنا اليومية وكأننا نسبح في بحر عميق مرتدين رداءً الغطس، نرى الماء ولا نشعر برطوبته، نعلم أنه مالح ولا نستطعم طعمه، إن هذا ما يسمى بغياب الإحساس، فما نراه كل يوم لا نستطيع أن نشعر به كما نشعر تجاه الأشياء التي نراها لأول مرة!
فكر كطفل.. واستمتع!
لماذا ينظر الطفل كثيراً حوله عدة مرات؟ ببساطة لأنه يرى المكان بصورة مختلفة في كل مرة ينظر فيها!
إذا وضعت رأسك على الأرض وقدميك مرفوعتين على كرسي أو طاولة أو حائط، ستلاحظ أنك ورغم أن الرؤية أصبحت مقلوبة إلا أن جميع الأشياء قد انطبعت في عقلك اللاواعي بأماكنها الطبيعية، ولن تشعر بأي شعور مختلف، في حين أن هذه الحركة تعني للطفل أن المكان أصبح مكاناً آخر وستجده مذهولاً ويضحك بصوتٍ عالٍ، لقد حصلت له فرصة أن يذهب إلى مكانٍ آخر!
"إنهم يرون العالم من زوايا تختلف عما نرى نحن. إنه عالم جديد، مختلف ومثير"
نفس الأمر يحدث حين ينام الطفل على ظهره ويحاول أن يمرر يديه من أمام عينيه، مرةً يضع إصبعين ومرةً يضع ثلاثاً ومرةً أخرى يضع الخمس مجتمعة ويفتح بينهما فتحةٌ صغيرة! لمَ برأيك يفعل ذلك؟ إنه في كل مرة يرى المكان بصورة مختلفة ويشعر تجاهه بشعورٍ مختلف ويرى معه خيالاتٍ أخرى!
إن الأطفال يتسكعون في العالم ويرونه متقلبا. فهم يرون الكرسي معلقاً من رجليه على السقف، ويرون الأعشاب وهي تنمو فوقهم، والسماء وهي تهبط تحتهم، وهذا عالم جديد عليهم يختلف عن العالم الحقيقي الذي يعيشون فيه.
بينما أنت لا تستطيع أن ترى الكتابة المقلوبة إلا حين تعيدها إلى وضعها الصحيح الذي تريده. فإذا كتبت الكلمات من اليسار إلى اليمين فإنك ستقرؤها من اليمين إلى اليسار لأنها الطريقة الوحيدة التي يستوعبها عقلك وتستوعبها عقولنا جميعاً، والسبب أننا قد برمجنا عقولنا على رؤية الأشياء بالصورة التي نعتقد أنها صحيحة وليس كما تبدو في الواقع!
برمج عقلك ليفكر بحرية أكبر!
نحتاج فقط لبعض التمرينات لنرى الأشياء بحرية، ونشمها بحرية ونسمعها بحرية ونلمسها بحرية، ولتحقيق ذلك فإننا نحتاج إلى التخلص من النظرة اللاواعية للأمور، والخروج من قمقم البديهيات، وفحص كل التفاصيل المحيطة بنا، وبمجرد ما نصل إلى تلك المرحلة فإننا سنكون حينها قد وصلنا إلى مرحلة الخيال الإبداعي.
هذه القضية ليست قضيةً فلسفية((قضية شحذ حدة استخدام الحواس من أجل الإبداع)) وإنما هي قضية علمية بحتة وحديثة، حيث يرى الخبراء بأن التفكير الإبداعي يرتبط بشكل مباشر بمستوى الطاقة الكامنة في العقل البشري، وأن أحد الوسائل لتحفيز مثل هذا التفكير هو الاحتفاء بالحواس وتدليلها، أي محاولة الانتباه لها والإحساس بها.
لذا، لتكن أكثر إبداعاً ولتستطع اكتشاف قدراتك الخلّاقة الكامنة، فإن عليك أن تكون أكثر التصاقاً بأحاسيسك وتمتعها بكل ما يستثيرها، وإن القدرة على الإبداع تتعزز باستخدام الحواس، فكلما قمت بزيادة فعالية الاستخدام النشط للحواس كلما زادت قدرتك على الإبداع.
كلمة أخيرة أقولها لك: دلِّل حواسك.. لتمطر أفكاراً!