في الابتكار- هناك أرنب وسلحفاة
حين نشير إلى أرنب وسلحفاة في سياق حديثي واحد فإن ذلك يعني أننا نشير إلى ذلك السباق الشهير الذي اجتازت فيه السلحفاة شريط النهاية وسط انبهار الجميع، فبالرغم من أن سرعة الأرنب و روعة قفزاته لا يختلف عليها اثنين، إلا أن السلحفاة بمثابرتها ضربت مثالاً على أن المستحيل ممكن وأن النجاح له أوجه متعددة.
فبعدما كان النموذج الغربي والأمريكي هو الوحيد المنتصر في الحرب والمتفوق في الاقتصاد والذي يسجل أكبر عدد من الابتكارات الجذرية في المجالات الكثيرة، أصبح هناك نماذج أخرى تطورت في ظروف أكثر صعوبة حيث الدمار وندرة الموارد والعزلة التاريخية كما كان حال اليابان. ومع ذلك استطاعت أن تحقق موقعها المتميز ومكانتها في أسواق مهمة وأصبحت مصدراً مهماً للابتكارات والممارسات الجديدة لتشكل نماذج جديدة للتعلم يقصدها الآخرين من أجل استلهام الرؤى والاستفادة من الدروس رغم تباين الخلفيات البيئية والثقافية.
الأرنب الأمريكي
يميل الأمريكيين إلى الابتكار الجذري الكبير والابتكار الفائق (Super-Innovation)، فالأمريكيون غالباً ما يثبتون أنهم يتحركون بدافع الأمل والطموح لا الخوف من الخسارة. ولعل هذا يفسر بحق أن أكثر الأفكار، والنظريات، والمنتجات، والطرق الجديدة خلال القرن العشرين كانت أمريكية تماماً مثل ما كان القرن التاسع عشر في مجال الابتكار قرناً بريطانياً حين كانت بريطانيا مصنعاً للعالم.
إضافةً إلى ذلك، كان المهاجرين الأوروبيين يتطلعون إلى كل شيء جديد ومغاير ولا يمت بصله إلى واقعهم وقيمهم التي هربوا منها، وهذا يفسر النزعة المادية والبرجماتية الأمريكية كما يفسر أولوية الكفاءة والمعايير المادية في الأعمال حتى على حساب الأخلاقيات، وأولوية الآلة (التكنولوجيا) حتى على حساب الإنسان، وأولوية الرفاهية المادية بكل منتجاتها ومبتكراتها على أشكال الحياة الأخرى، لذلك كانت تتجه الولايات المتحدة إلى مشروعات العلم الكبير –وهي المشروعات البحثية الكبيرة التي تتطلب ميزانيات ضخمة- وكانت نظرتها تنمو إلى حدود غير طبيعية نحو العملقة (Bigness) التي تفسر بدورها جانباً من الميل الأمريكي إلى الابتكارات الجذرية (الاختراق) أكثر من ميلها إلى الابتكارات التدريجية أو التحسينات الصغيرة، حتى عندما تأتي شركة صغيرة بابتكارات جديدة فإنها سرعان ما تنضم وتتعلق بهذه الابتكارات، وعززت الظروف السياسية والاقتصادية في ذلك الوقت مثل هذه النزعة حيث كانت الدول منهكة من الحروب والفقر ونقص الموارد لتصبح الولايات المتحدة هي القوة المنتصرة في الحرب والقوة الاقتصادية العظيمة ذات الموارد والإمكانات المالية والتكنولوجية والإدارية والبشرية الأكثر تأهيلاً لتكون مصنع العالم.
السلحفاة اليابانية
استطاعت اليابان التحول من دولة نامية مدمرة بعد الحرب العالمية الثانية إلى قوة اقتصادية عظيمة، وبالطبع لم يأت هذا صدفة وإنما نجم عن إرادة وريادة طموحة تمثلت في العديد من الممارسات التي أسفرت عن مثل هذا النجاح القائم، فقد كانت اليابان تعاني من خسائر الحرب كما أن علاقاتها الخارجية كانت سيئة حيث كانت مدينة للولايات المتحدة جرَّاء الهزيمة في الحرب، أما علاقتها بجيرانها فقد أثَّرَت مشاكل الإرث الاستعماري عليها بشكل كبير، إضافة إلى أن منتجاتها ذات الجودة المتدنية لم تكن مشجعة على تطوير علاقتها مع الكثير من الدول.
في ظل تلك الظروف، وجدت اليابان نفسها مجبرة على إعادة بناء أساساتها الصناعية في نفس الوقت الذي كان يجب عليها مواكبة الصناعة الغربية التي كانت متقدمة آنذاك، ولكنها بالطبع لم تكن قادرة بعد على الابتكار الجذري، وبالرغم من ذلك فهي لم تستسلم بل انتهجت سياسة التحسين المستمر للمنتجات، فقد آمن اليابانيون بأن التركيز على تحسين عمليات التصنيع سيشكل قوة حقيقية للسوق الياباني حيث أن العمليات التحسينية تنطوي دائما على مخرجات إنتاجية أفضل في أوقات أقصر، وكانت تستورد من الشركات الأمريكية الآلات القديمة لتستخدمها في مصانعها مثلما فعلت شركة نيسان، كما كانت تستقدم مستشارين وخبراء ومهندسين أمريكيين لتشغيل هذه الآلات وتدريب اليابانيين على استخدامها. إضافة إلى ذلك كانت ترسل بعثات دراسية وتدريبية إلى الولايات المتحدة التي كانت بالنسبة لليابانيين هي النموذج المتفوق في الحرب والاقتصاد والإدارة وصاحبة الإنتاجية الأعلى والجودة الأفضل.
قد يعتقد البعض أن المستفيد الأول من تحسين المنتج هو مخترع المنتج الأصلي، ولكن ذلك لا ينطبق على التجربة اليابانية، فقد نقلها التحسين المستمر لمنتجات اخترعتها دول أخرى من دولة نامية إلى دولة لها قوتها الاقتصادية ومكانتها المرموقة بين دول العالم المتقدم، حيث أن تطوير الصناعة اليابانية للعديد من المنتجات وصل إلى درجة تفوقت فيها هذه المنتجات المُطوَّرة على المنتجات الأصلية سواء كانت أمريكية أو أوربية بل إن بعض هذه المنتجات الأصلية لم تعد موجودة في السوق، وبعضها الآخر أصبح يخوض منافسة صعبة ليحافظ على قيمة سهمه السوقي.
وكان المأخذ السلبي الوحيد على نموذج الابتكار الياباني القائم على عمليات التحسين المستمر في مواجهة النموذج الأمريكي القائم على الابتكار الجذري (الاختراق) هو أن اليابان لم تنتج منتجاً جديداً مهماً على مدى الخمسينات والستينات، بل كان كل إنتاجها متمركزاً على نسخ محسنة لمنتجات غربية، وإذا كان تفسير الميل الأمريكي نحو الابتكار الجذري نجده في اتساع البلد- القارة- جغرافياً والحاجة إلى توحيد الأعراق والأجناس في الولايات الكثيرة والنزعة الفردية المفرطة، فإن ميل اليابانيين إلى الابتكار -التحسين- بكل ما يعنيه من قبول بالتحسينات والتعديلات الصغيرة يحمل تفسيرات عِدَّة، فالبعض يقول بأن هذا التوجه الياباني ناتج لشك اليابانيين في قدرتهم على الابتكار الجذري، والبعض الآخر يقول بأن هذا يعود إلى أن اليابان بلد صغير جداً في مساحته، كما أنه مولع بالصغر في ثقافته وأساطيره حيث تروي الأساطير اليابانية عن عمالقة صغار يُحوِّلون الإبر إلى سيوف والأوعية إلى زوارق، أما الآن فقد انعكس هذا الولع بالصغر على منتجاتهم الالكترونية القائمة على التصغير وأبرز مثال على ذلك هو أجهزة شركة سوني (Sony) اليابانية التي تصدَّرت الشركات في تصغير حجم المسجلات والراديوهات وأجهزة الفيديو.
ومهما كانت أسباب ودوافع النموذج الياباني نحو التحسين الابتكاري، فإن لا أحد يختلف على أن نجاح اليابان في هذا المجال قد منحها الثقة لتكون قائدة للابتكار الإنتاجي في صناعة الإلكترونيات.
لماذا الأرنب والسلحفاة؟
إن أبرز تشبيه للوثبة الإستراتيجية الغربية أثناء انتقالها من دورة ابتكار إلى أخرى هو تشبيهها بوثبات الأرنب في سباقه مع السلحفاة، حيث يقوم على التعاقب في الوثوب الكبير ومن ثم الركون الطويل للتهيؤ للوثوب الكبير اللاحق. وفي قطاع الأعمال فإن الركون في أغلب الحالات يعني التراجع والتدهور.
على خلاف ذلك، نجد في السلحفاة المثابرة أفضل تشبيه للتجربة اليابانية في الابتكار حيث استطاعت اليابان من خلال التحسينات الصغيرة التي تقوم بها استنفاد طاقتها القصوى للابتكارات التي حققتها غيرها من الدول، مثل السلحفاة التي تكتسب خبرة من خلال دبيبها البطيء الذي يساعدها على الإلمام بشتى التفاصيل.