مدخل:
" إذا حصلتُ على تقدير جيد جداً،يجنُّ والدايّ، وينقلب البيتُ رأساً على عقب. لذلك توقفتُ عن أداء أي واجبات مدرسية أُكَلَّف بها، حتى استطاعوا أخيراً أن يتفهموا مشكلتي، وأصبحوا الآن أكثر تقبلاً لأي درجة أحصل عليها".
طالب موهوب:13عاماً.
______________________________
يعتقد بعض المعلمين وأولياء الأمور أن هناك فئة من الطلاب والأبناء كُتِبَ عليهم أن يصيبوا دائماً ولا يُخطئوا، وأن يكونوا على الدوام متفوقين وأذكياء وحكماء وعقلاء ومؤدبين، بغض النظر عن أي عوامل أخرى محيطة ومؤثرة!
نعم، قد لا يكون هذا الاعتقاد مصرَّح به، ولكنه مُلاحَظ ومُشَاهد ضِمناً في تصرفات بعض المعلمين وأولياء الأمور يثبتها قولهم مراراً وتكراراً "غلطة الشاطر بعشرة"، وكأنهم بذلك يفترضون بأنهم معصومون من الخطأ، أو أنهم على سجية واحدة لا يحيدون عنها يوماً.
مثل هذه المقولات تُلقَى جزافاً دونَ حسابٍ لأبعادها، وقد يعتقد المعلم أو وليُّ الأمر بأنه يظهِرُ بذلكَ تقديراً خاصاً للطفل الموهوب، وثقةً بكفاءته وموهبته وقُدراتِه، ولا يعلم بأنه يمارِسُ ضغطاً على الموهوب قد يكونُ بدورهِ سبباً في أن يعيش هذا الموهوب نوعاً من العزلة، أو يضطر لأن يخفي موهبته، وقد حدث كثيراً أن يعيشَ الطفل بثوبٍ آخر يخفي فيه قدراته الحقيقية حتى لا يتلقى مثل هذا اللوم المضاعف.
الموهوب ليس متفوق بالضرورة!
لا شك أن هناك موهوبون لديهم نزعة إلى المثالية لذا فهم يحرصون أن يحصلوا على أعلى الدرجات في جميع المواد، ويظهروا أدباً جماً ومثاليةً عالية، ولكن في المقابل هناك موهوبون آخرون قد تستهويهم مادةً دون أخرى، وقد يثير موهبتهم معلمٌ دونَ آخر، وقد يبدعون في فصلٍ دون غيره... تماماً مثلَ غيرهم من الطلاب العاديين.
والسؤال الذي يطرح نفسه؛ هل من حقنا أن نستغل إبداع الموهوب في مادةٍ ما، فنطالبه بمثلهِ في بقية المواد؟ هل من الصواب؛ أن نقيس نجاحه في مادة على بقية المواد، ونطالبه بمستوى واحد، وإلا فإنه لن يكون موهوباً؟ هل يحق لنا أن نجبره على أن يكونَ موهوباً بنفس مستوى موهبته حينما كان في الصف الرابع؟ أو نطالبه بأن يكونَ موهوباً مثلَ أخيه؟ هل من المنطق؛ أن نُذَكِّرَه في كل حين، وفي كل وقت، وفي كل ساعة بأن معلمه الرياضيات يُشيد بذكائه، وأن نتساءل أمامه كيف له أن يخطئ في حل مسألة بسيطة؟
إن الموهبة ليست ثوباً ذو مقاسٍ واحد، يلبسه جميع الموهوبين بنفس الطريقة، وفي جميع المناسبات، وإنما هي مجموعة من الخصائص منها ما هو موروث، ومنها ما هو مكتسب، منها ما هو مُحَفَّز ونشِط، ومنها ما هو مُهمَل، مثلها مثلَ أيِّ خصائصٍ أخرى تَحيَى في يومٍ، وتَموتُ في آخر، وتَنشَطُ في يومٍ، وتَخمدُ في آخر، بحسبِ العواملِ المؤثرة والبيئة المحيطة.
وعليه، فيجب أن نعلم أن الحل الأنجع لمشكلةٍ ما في سلوك الموهوب أو تَدَنٍ ملحوظ في تحصيله الدراسي، ليس بتذكيره بموهبته، أو بتخويفه من فقدها، أو بعتابه على إهمالها، وإنما بأن تنتهَِج جملةٍ من التصرفات، منها ما يلي:
1- ابحث عن العوامل المؤثرة على مستواه وعالجها بصورة غير مباشرة.
2- كن متفهماً، وتبنى منهج التحفيز في التعامل، فالموهوب –كأي شخص آخر- يمر بتغيرات فسيولوجية تُؤَثِّر على مزاجه وأدائِه، فتَقَبَّل ذلك، وفَسِرهُ لَه، وحدِّثه بأنه: من الطبيعي أن يخطئ، ومن الطبيعي أن يتراجع مستواه- لكن من المهم أن يبحث دائماً عن خط رجعة وأن لا يستسلم أبداً.
3- راقب عباراتك جيداً، وتذكر أن بعض عباراتك التي تلقيها بنية التشجيع والتحفيز، قد تكون هي سبب إحباطه واندثار موهبته، فانتقِ عباراتك وادرسها جيداًُ، ومن أمثلة ذلك:
أ. تَعلَّم أن تقول، " أعلم بأنك قادر على حل المسألة"، بدلاً من " يجب عليك حل المسألة".
ب. وتَعلَّم أن تقول أيضاً: "لا بأس، إن لم تستطع حلها، فحاول مرة أخرى وأخرى"، بدلاً من "كيف لم تتمكن من حلها؟ إنها سهلة!".
ج. وأيضاً: "لم تقم بحل الواجب؟ أتفهم ذلك... بالتأكيد كان لديك ظرف، حسناً أحضِرهُ غداً" بدلاً من: "غلطة الشاطر بعشرة، فلتقف حتى نهاية الحصة".
د. أما في حال سوء التصرف أو السلوك الخاطئ فبإمكانك أن تقول: "مالذي دفعك إلى هذا التصرف صباح اليوم، كن صريحاً معي وسأتفهم بل قد نبحث عن الحل سوياً"، بدلاً من: "كيف تفعل ذلك وأنت المثالي دائماً، إذن لا ملامةَ على الآخرين إن أخطئوا."
من جهة أخرى، فعلى المدرسة والمؤسسات التعليمية الكبيرة أن تخلق الوعي بأهمية هذه الأساليب التربوية، وأن تعززها كأن تقوم بما يلي:
• إخضاع المعلمين لدورات وورش عمل حول أفضل الممارسات التربوية للتعاطي مع مشكلة تدني التحصيل الدراسي، وورش عمل أخرى حول أساسيات الحوار الفعال مع الطلبة.
• تعزيز أي ممارسات إيجابية جديدة وفعالة يقوم بها أي معلم تجاه طلبته، ليقتدي به المعلمين الآخرين.
• تهيئة عيادة في كل مدرسة مهمتها الإرشاد الاجتماعي والنفسي للطلبة الموهوبين.
محطة للتوقف والتأمل في (رسالةِ ابنٍ إلى أبيه):
كتب طالبٌ يوماً إلى أبيه:
"أبي.. لقد طلبتُ من موظف الاستقبال أن يسلمكَ هذه الرسالة فورَ عودتك من الاجتماع لتكون على علم بمكان تواجدنا. فقد اندلع حريقٌ في بيتنا، وأخذنا جارنا إلى منزله، فهو الشخص الوحيد الذي كان متواجداً واستطاع نقلي إلى غرفة الطوارئ. أتمنى أن تستطيع فهم ما كتبت، فأنا لا أستطيع أن أُحَرِّكَ ذراعي بسهولة بسبب الضماد.
"لقد قال رجل الإطفاء بأن الأسلاك كانت قديمة، ولكن الحمد الله استطعت أن أحتفظ بألبوم صور العائلة، وأريد أن أطمئنك أبي بأن أختي بخير، رغم أن أمي تقول بأنها ليست كذلك.
وأيضاً أبي، أريد أن أخبرك بأن أستاذي الرياضيات يريدك أن تتصلَ به.
كل الحب
ابنك
ملاحظة: إني أمزح يا أبي، أنا بخير، وأمي وأختي أيضا بخير، كل ما في الأمر أني حصلت على تقدير مقبول في الرياضيات، ولكن ذلك ليس مهم، بل سلامتي هيَ الأهم.. صح؟".
رسالة كهذه -رغم ما تحمله من الظرافة والذكاء- إلا أنها تعد سلوكاً غير مقبولاً، مما يقودنا بالتالي إلى تأمل الدوافع التي دعت الابن إلى اتخاذ هذا السلوك، ومن ثم البحث عن أبرز الأساليب التي من شأنها معالجة هذا الموقف والمواقف المشابهة بأفضل طريقة ممكنة.
إن من أولياء الأمور –وللأسف- من يقيس موهبة ابنه بعلاماته في المدرسة، بل ويبالغ في أن يزايد على عواطفه تجاه ابنه بقدر ما يحصل عليه من العلامات، كأن لا يحدثه، ولا يمازحه، ولا يجالسه، ولا يقاسمه وجبة الغداء!
تصرفاتٌ كهذه لا يُستَغرَب أن تكون نتيجتها مثل الرسالة أعلاه في أخف أحوالها، وقد تتضاعف لتبلغ بأن يزوِّر الابن درجاته لأبيه، أو أن يقعَ فريسة للإحباط ورهينة للتراجعات اللا منتهية.
وعليه، فإن أفضل سياسة للتعاطي مع هذا الموقف بل وجميع المواقف الأخرى من قبل ولي الأمر هي الاعتدال في التأنيب، والبحث عن جوانب مشرقة والوقوف عندها، وانتهاز أيَّ فرصة من شأنها أن تحفز الابن دون إثقالٍ عليه بالمسؤوليات، أو إرهاقه بالتوقعات العالية، والأهم هو عقد جلسة حوار هادئة مع ابنك على أن تتسم بروح الصداقة، ويغلب عليها التفهم، تبحث فيها أسباب المشكلة، وتساعده على حلِّها بنفسه، دون أن تجعله يتكل عليك، وسترى مفعول ذلك قريباً.