أتذكر عندما كنت في المرحلة الثانوية، وتحديداً في الصف الأول ثانوي أي قبل تسع سنوات تقريباً من الآن؛ شرح لنا معلم مادة الأحياء اختراع المجهر المركب للحسن بن الهيثم، فقال بأن كل ما فعله الحسن بن الهيثم هو فقط اختراع المجهر البسيط.
فشعرت بنغزة غضب واستنكار حزت في نفسي؛ كيف يقال عن الاختراع أنه بسيط وهو لم يرى النور إلا بعد أن أحسنت أصابع الحسن بن الهيثم لتقدم حلاً لأعين البشرية يمكنها من رؤية الأشياء التي لا تراها أعينهم، وحتى تفهم المسألة بشكل أعمق سوف أطرح لكم مثالاً ظاهراً أمام كل منزل.
إنها السيارة؛ حيث استطاع العالم الألماني بنز عام 1885 أن ينتج أول سيارة تجارية باسم موتورفاجن. وهي سيارة تعمل بمحرك بنزين رباعي الأشواط من تصميمه، وتتحرك على ثلاث عجلات. وقد حصل على براءة الاختراع عن هذه السيارة في 29 يناير 1886، واستطاع أن يبيعها عام 1888 قبل أي مصنع آخر بأربع سنوات.
فهل يتجرأ أحد أن يقول بأن سيارة بنز الأولى بسيطة وليس لها أي أهمية اليوم؛ فاليوم نتحدث عن السيارة الكهربائية، واليوم نتحدث عن السيارة الطائرة، واليوم نتحدث عن السيارة الكاشفة للألغام ... الخ. بالطبع؛ صاحب هذا الكلام مثله كمثل شخص ملَّ من مذاق خبز مطاعم قريته، بسبب رداءة جودة القمح المستعمل في عملها؛ فقام أحد الخبازين بجلب قمح جيد النوعية من حقل لأحد الفلاحين المثابرين والمكافحين على جودة محصوله من القمح؛ فاشترى منه كيساً من القمح ليعمل منه قطعاً من الخبز يروق طعمها للجميع.
فما كان من الخباز إلا أن عجن العجينة وحمر الخبزة؛ فتوافد الناس عليه وأصبح لا يُعرف خبزٌ في القرية إلا خبزه، ونسب فضل طعم الخبز إليه؛ في حين أن الفضل في الأساس هو لصاحب حقل القمح الذي أجاد في إنتاج محصولٍ جيدٍ من القمح.
وها هي معارض السيارات بجميع أنواعها وموديلاتها وسرعاتها كلها أتت بعد أول سيارة خرجت إلى العالم، وكلها بنيت على فكرة بنز الأولى البسيطة، التي بنو عليها بنيانهم .. فصناعة السيارات كمثال هي أشبه ببرج وضع أساساته بنز صاحب أول سيارة وبنى من بعده أدواراً وطوابق بلغت الآلاف، كلها تحت أساسات بنز الأول، الذي ربما لو اهتزت أساساته لما رأينا للسيارات أثراً، أو لربما تأخرت صناعة السيارة أمداً بعيداً.
فلا تنظر إلى النهاية متغافلاً عن البداية، بل انظر إلى أن البداية حتى وإن كانت بسيطة أو ربما سخيفة لا بد وأن تكبر ويصبح لها حجماً يساعدها على النمو، ويدفع الغير إلى تطويرها وإكمال خطواتها. وها هو الإنسان .. لم يخرج من بطن أمه وهو يزأر ويصنع، بل يصرخ ويرضع، وعلى صدر أمه يلتصق إلى أن نما ونما وما زال ينمو كبقية الكائنات، وكسنة خلقها وفطرها الله في كل الكائنات وفي كل الأمور ألا وهي البدء بخطوة صغيرة، تتلوها خطوة أكبر حتى الوصول إلى القمة؛ وهذا ربنا رب العزة والجلال سبحانه خلق السموات والأرض في ستة أيام؛ ولو أراد سبحانه أن يخلقها في طرف عين أو أقل منها لكانت؛ ولكن لتكون لنا عبرة بأن نبدأ الأعمال خطوة خطوة .. فهل نعتبر؟
لذا .. أفخر بكل مخترع يبدأ اختراعه من منزله، أو من مدرسته؛ بل والله يوجد مخترع في قريتي اضطر إلى الذهاب في الصباح الباكر نحو مكب النفايات الرئيسي حتى يأخذ ويجمع الأجهزة الإلكترونية المرمية في أكوام النفايات ومن ثم يجري عليها اختراعاته، وتمكن بفضل الله من اختراع أكثر من جهاز حيوي ومهم.
فلا تنظر لا إلى بداياتك في عالم الاختراع على أنها بسيطة مها كانت، ولا تُشعِر أي صاحب بداية بسيطة بأن بدايته بسيطة حتى وإن كانت أقل من ذلك؛ لأن كل ما قدمه إلى الآن ما هو إلا خطوة باعترافٍ منه لا يحتاج إلى تصريحٍ منك .. لكنه يعد قفزة طويلة قد يسري شعاعها إلى جميع دول العالم، ليبقي له أثراً في التاريخ، وموضع قدم في الجنة إن أخلص في اختراع وقبله منه الله سبحانه.
بقي أن أختم مقالتي بهذه المعلومة : هل تعلم بأن أول مركبة فضائية أُشعِلت بعود ثقاب، ووُضِع تحتها رغوة صابون هائلة لتسهيل عملية الإطلاق؛ والأغرب هو أن المكوك الفضائي سقط سريعاً ولم يبلغ إلا أمتار بسيطة وهو محلق في الجو (أشبه بصواريخ الأطفال التي يطلقونها)، وكان حجمه صغيراً جداً، وبعد سقوطه فرح الناس ولم يضحكوا أو يبسطوا الموضوع؛ بل اعتبروه انجازاً لأنه بداية، وحلماً لا بد أن يتحقق في النهاية؛ وفعلاً استغنوا الآن عن أعواد الثقاب لإطلاق المكوك الفضائي، وأصبحنا نشاهد الغازات تهيج في مشهدٍ مهيب بعد العد التنازلي لإطلاق أي مكوك فضائي.
لذا .. كل مخترع كان نملة يسقط ويقوم، ويسقط ويقوم، ثم يسقط فيقوم؛ أما من كان ديناصوراً لا يقف أمامه أحد؛ فليعلم أن الديناصور الكبير قد انقرض، وبقية النملة الصغيرة التي تحاول وتسقط ثم تقوم؛ فابدأ مثل النملة وإلا انقرضت مثل الديناصور.