مقالات
 
   
   
 
 

 
 
share on facebook   Tweet    
 
 
 
 
 

بائع الجَوارِب

الكاتب:
ياسر حارب
 

 

 

يُحكى أن رجلاً كان يملك بستاناً مليئاً بكروم العنب، إلا أن أولاده كانوا لا يُحبون الزراعة، وكلما حاولوا أن يعملوا في التجارة خسروا أموالهم، وعندما مرض أبوهم قبل موته بعدة أشهر، لم يستطع أن يهتم بالبستان؛ فبدأت الكروم تذبل وتجف.


وقبل أن يتوفى أخبرهم بأنه ترك لهم كنزاً من الذهب مدفوناً تحت إحدى تلك الكروم، وما إن واروه الثرى حتى انطلقوا يحفرون البستان ويزيلون الطين المتراكم على جذور أشجاره. بعد انقضاء عدة أشهر، بدأ البستان يستعيد نضارته، وبدأت الكروم تؤتي أكلها عنباً طيباً.


وبدأ الأولاد يقطفون الغلّات ويبيعونها في السوق، إلى أن أصبحوا من أشهر تجّار العنب في بلادهم. لقد ساعد «بحثهم» عن الكنز الوهمي الذي أخبرهم عنه أبوهم، على دفعهم لاكتشاف الكنز الحقيقي وهو العنب، حيث بدأوا، من حيث لا يشعرون، يهتمون بالمحاصيل الزراعية التي كانت سبباً في غناهم بعد ذلك. كذلك هي الحياة في مختلف جوانبها، فكلما بذلنا جهداً في تعلم شيء واكتشافه، صرنا أهلاً لأن نُعْرَف به.


أخبرني أحد المدققين في صحيفة عربية، بأنه يضطر أحياناً إلى إعادة صياغة مقالات بعض الكتاب لشدة الأخطاء النحوية والتركيبية التي تتخللها؛ فمشكلة أولئك هي أنهم بدأوا الكتابة «على البركة»، ومع انقضاء الأيام لم يجدوا حاجة لتعلم أصولها أو قراءة كتب تعليمية حول أساليب الكتابة الصحفية؛ ولذلك تجدهم غير قادرين على تعليم أحد تلك الصناعة، لأنهم يفتقرون إلى إدراك أساسياتها كما هو ظاهر في كتاباتهم. ومما ساهم في تعاظم هذه الأزمة المعرفية، أن بعض المتلقين لتلك النصوص يُعلون من قدرها، لا لأنها جيدة. ولكن لأنهم منبهرون باسم كاتبها الذي يحرص على حضور المؤتمرات، والظهور في البرامج الحوارية، والتسويق لنفسه، أكثر من حرصه على الاهتمام بجودة إنتاجه. ولقد ساهم المجتمع في خلق حالة الفوضى المعرفية هذه، عندما أحجم معظم أفراده عن تثقيف أنفسهم؛ فعجزوا عن التفريق بين الإنتاج الرصين وبين الركيك، فانساقوا خلف كل من قال جملتين مليئتين بالسجع والطباق.


بعضنا يعمل في وظيفة جديدة، دون أن تدفعه الحاجة المعرفية إلى شراء كتاب في ذلك المجال، فتراه مندفعاً للعمل ليل نهار، إلا أن إنتاجيته في آخر اليوم ضئيلة وذات جودة متدنية؛ ولذلك فإن بعض مؤسساتنا تحب أن تطلق لقب «خبير» على كل من أتاها من شركة استشارية عالمية وبدأ يتفوه بأشياء، يُخيّل إليهم من سحرهم، أنها معقدة.


لقد عملتُ مع شركات استشارات عالمية عدة. وكانت خلاصة تجربتي واحتكاكي مع «الخبراء»، أنهم كلما استلموا مشروعاً جديداً من مؤسسة ما، اشتروا عشرات الكتب التي تصب في مجال ذلك المشروع، ثم يقرؤونها ويجلسون بعد انتهائهم ليتحدثوا عن ذلك التخصص حتى يفهموه جيداً.


ويبدؤوا بعدها إعداد مئات الصفحات التي تتحدث عن رؤيتهم واقتراحاتهم لتطوير المشروع، والتي تكون غالباً ملخصات من تلك الكتب! لا أرى في ذلك أي عيب، ولكن العيب أن يسند أحدنا عقله للخبراء، لأنه ليست لديه رغبة في تعلم الأشياء بنفسه.


أي شيء أعظم من أن يحيط الإنسان بمعرفة المجال الذي يعمل فيه أو يهواه؟ وأي شيء أجمل من أن يبحث أحدنا في الزوايا المهملة لذلك المجال، ويستنبط القوانين المُغفلة فيه، والتي تكون، غالباً، نقطة التحول التي تجعل مشروعه أو عمله أو فكرته شيئاً عظيماً؟ لماذا لا نقرأ كتباً عن الرسم قبل أن نمسك الفرشاة؟ ولماذا لا نحضر دورات في الخطابة قبل أن نظهر إلى الجمهور؟ ولماذا لا نتعلم أساسيات الصرف والنحو والكتابة الأدبية قبل أن نُقدم على كتابة رواية؟ إن تعلم أصول الأشياء ليس رجعياً كما يعتقد البعض، فهو فقط ما يضمن النجاح، وإن رأيت من هو ناجحٌ دون أن يمتلك شيئاً من تلك الأصول، فاعلم أن نجاحه مؤقت وليس حقيقياً.


حضرتُ قبل سنوات دورة في الإدارة والاستثمار في كلية إنسياد في فرنسا، وكان أحد زملائي في الفصل طالباً أسترالياً قد شارف على الخمسين من عمره، سألته في أحد المساءات عن سبب حضوره لتلك الدورة التي استمرت شهراً؟ فقال لي بأنه يريد أن يؤسس شركة لبيع الجوارب من خلال الإنترنت، وما يميز شركته أنها ستبيع الجوارب السود والبيض فقط. وعندما سألته عن السبب، قال إن «الدراسة» التي قام بها أشارت إلى أن معظم الناس يلبسون هذين اللونين، وسوف يعمل على إيصال الجوارب إلى منازل المشترين حتى لا يتكبدوا عناء الذهاب إلى السوق. سكتُ مستغرباً، حيث سافر هذا الرجل قاطعاً نصف الكرة الأرضية بالطائرة، واستثمر أكثر من عشرين ألف يورو ليحضر دورة من أجل مشروع صغير! سألته على استحياء عن سبب حضوره الدورة مرة أخرى، فقال لي: «حتى أتعلّم الطرق الصحيحة لبيع الجوارب».

 
عدد التعليقات 7
2768
 

التصنيف:
مهارة
 
كلمات البحث:
 

Cannot create an object of type 'System.Int32' from its string representation 'AllNewsCommentsUserControl1' for the 'Id' property. 
at System.Web.UI.TemplateParser.ParseString(String text, VirtualPath virtualPath, Encoding fileEncoding) at System.Web.UI.TemplateParser.ParseFile(String physicalPath, VirtualPath virtualPath) at System.Web.UI.TemplateParser.ParseInternal() at System.Web.UI.TemplateParser.Parse() at System.Web.Compilation.BaseTemplateBuildProvider.get_CodeCompilerType() at System.Web.Compilation.BuildProvider.GetCompilerTypeFromBuildProvider(BuildProvider buildProvider) at System.Web.Compilation.BuildProvidersCompiler.ProcessBuildProviders() at System.Web.Compilation.BuildProvidersCompiler.PerformBuild() at System.Web.Compilation.BuildManager.CompileWebFile(VirtualPath virtualPath) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResultInternal(VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean throwIfNotFound, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResultWithNoAssert(HttpContext context, VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean throwIfNotFound, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResult(HttpContext context, VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.UI.TemplateControl.LoadControl(VirtualPath virtualPath) at MawhibaMainWebPart.MawhibaMainWebPart.loadUserControl()
 مقالات مرتبطة

 
 
 
عدد التعليقات 6
8401