ارتبط الابتكار في الماضي بشخص المبتكر وحده، ولهذا كنا نجد مدراء الشركات يبحثون عن الفرد المتألق الذكاء ويربطون الابتكار به. أما في الوقت الحاضر فقد أخذت الشركات تحت وطأة المنافسة تتبنى مفاهيم وأساليب جديدة ومتنوعة تقوم على ضرورة الاهتمام بمشاركة العاملين إدارياً وفنياً في إنجاز الوظائف والمهام ومنها النشاط الابتكاري، ذلك لأن الشركات أصبحت تواجه تحدياً كبيراً في تطوير الجودة والأداء للمنتج والخدمة، إلى جانب أنها تخوض منافسة شديدة في تحديد سعر المنتج، الأمر الذي يتطلب منها أن تتبنى استراتيجيه مزدوجة للنجاح بحيث تقوم هذه الإستراتيجية على التخطيط للتغيير المستمر الذي يهدف إلى تطوير الإنتاجية، ورفع الربحية لمنتج قائم، وعلى إستراتيجية لإنتاج منتجات أفضل أو جديدة.
إضافة إلى ذلك، فإن النجاح الابتكاري في شركةٍ ما يتطلب بيئة ملائمة تتبنى عوامل تنظيمية خاصة تدعم الابتكار وتشجعه، من هذه العوامل ما يلي:
أولاً: التعهد الإداري بالتغيير والتطوير
هناك العديد من المدراء الذي يتجهون إلى التغيير كردود فعل فقط، أي أنهم لا يقومون بأي تغيير إلا إذا توجب عليهم ذلك وعادةً ما تكون هذه التغييرات "قليلة جداً ومتأخرة جداً".
من جهة أخرى، فإن بعض المدراء يعترفون بحاجة المنظمة إلى الابتكار بمفهومه العام، ولكنهم لا يتقبلون ما يتضمنه هذا المفهوم في صورته العملية من حاجة إلى التغيير والمرونة في التعامل مع الموظفين.
لقد قال نابليون مرة لأتباعه الضباط ناصحاً: "لا بد أن يُغيِّر الشخص من تكتيكاته كل عشر سنوات إن أراد أن يحافظ على تميزه، لكن نابليون لم يطبق ما نصح به جيشه ولم يغير في أسلوب إدارته لجيشه، الأمر الذي جعله يخسر في واترلوو ((Waterloo بعد أن استطاع خصومه أن يتوقعوا جميع تكتيكاته."
يحتاج فريق القيادة العليا أن يُظهر بوضوح التزامه بإستراتيجية الابتكار المزدوجة، لما لذلك من دور هام في التغلب على البيروقراطية الرافضة للتغيير، وتتأكد أهمية توضيح إستراتيجية الابتكار عند حدوث أي تغيير أو تجديد في الشركة لأن بعض العاملين يتعاملون مع التغيير كعامل تهديد لاستقرار واستمرارية الشركة، في حين أنه عادةً ما يكون فرصة تطويرية نحو الأفضل.
إضافة إلى ذلك، فإنه من المهم جداً أن تلتزم إدارة الشركة بمنهجية تفكير استراتيجي إيجابي تقوم من خلالها بدراسة واقع الشركة ورسم رؤية مستقبلية واضحة وتحديد أهداف وغايات محددة تركز عليها ولا تتشتت عنها إلى غيرها، لأننا إذا جعلنا رسالة الشركة عامة وفضفاضة، فإننا بذلك سنخاطر بنجاح وامتياز الشركة، أما إذا جعلنا الرسالة خاصة جداً فإننا بذلك نستبعد التطوير الإبداعي والابتكاري.
تجربة شركة سكوت:
ثبت عن الشركة الأمريكية (O M Scott) أنها قد قضت سنة كاملة تفكر في جملتين لتقرَّر أي واحدةٍ منهما أنسب أن تكون هي الرسالة الجوهرية للشركة؛ هاتان الجملتان هما: أن نُنتج أسمدة، أو أن نُحافظ على خضرة الحقول، ولكنهم في النهاية قاموا باختيار الجملة الثانية، الأمر الذي قادهم إلى استثمار التسهيلات المتاحة لإنتاج العديد من المواد الكيميائية التي ساعدتهم على تنفيذ رؤيتهم وهي الحفاظ على خضرة الحقول. مثل هذا التنوع في الإنتاج لم يكن ليحدث لو كانت رسالة المؤسسة لا زالت تتعلق بإنتاج الأسمدة.
يتضح من ذلك أن الابتكار يجب أن لا يكون مجرد عملية تفاعلية، بل لا بد أن يكون خطة ذات توجيهات، فهو يحتاج إلى أن يتم توليده من خلال توجٌّه ورؤية المؤسسة، حتى تتم الموائمة بين الاحتياجات الحالية للإنتاج وتسويق البضائع والخدمات الموجودة – الأولوية التجارية- وبين المتطلبات المتوسطة والطويلة المدى كالبحث والتطوير. مثل هذا التوازن الاستراتيجي من شانه أن يساهم في رسم المستقبل المأمول للشركة واقعاً حقيقياً كما أنه الطريق المؤكد للاستثمار الناجح.
ثانياً: بناء الرؤية طويلة المدى
"لم يتم صنع أعمال عظيمة فجأة"
فيلسوف روماني
يعد معيار الربح قصير المدى غير مناسب حينما نتحدث عن تطوير وإنتاج منتجات وخدمات جديدة. كما تعد السياسة التي تتبنى مثل هذا التفكير سياسة غير مشجعة على الابتكار وبالتالي تصبح أكثر عرضةً للفشل، ولتتخطى الشركات مثل هذه المشكلة لا بد على قيادات الشركة من إعادة صياغة الأهداف لتكون أكبر وتركز على الربح بعيد المدى.
ثالثاً: الاستجابة للتغيير
تعد المرونة عاملاً مهما للنجاح في المنظمات الابتكارية الحقيقية، فالشخص أو الفريق المرن أو المنظمة المرنة يعد أكثر قدرة على الاستجابة للتغيير أو التواكب مع الأحوال الجديدة، لاسيما وأن التطورات والتغييرات في المنظمات الابتكارية تحدث باستمرار وبسرعة كبيرة تختلف عن غيرها من المنظمات. لهذا وحتى تنجح مثل هذه المنظمات فإن الأمر يتطلب بيئة تتقبَّل التغيير تتمثل في نظام مرن وفريق مرن يستوعب الجديد ويفهمه ويتقبله ويتكيف عليه.
رابعاً: تقبل المخاطرة
"ما لم تتم المجازفة ، فلا يمكن الحصول على شيء".
إذا كنت تسعى أن ترى نفسك أو منظمتك إبداعية وابتكاريه فثق أنه من المستحيل أن تبتكر دون أن تقبل بالخسارة، لذا كان لزاماً على كل شخص يريد أن يبتكر أن يُقدِّر حجم المخاطر التي قد يواجهها ومن ثم يقوم بتكييف الموارد المتاحة لديه بناء على هذا التقدير.
أبسط صور الخطر هي الأخطاء والفشل، وفي أي منظمة سيحدث حتماً مثل هذا النوع من الفشل، ولكنه بالطبع يختلف عن الفشل الناجم عن عدم المبادرة أو عدم اتخاذ القرار السليم أو عدم التفاعل. لذا لا بد على القادة تقبل أقل أشكال الخطر وتحمل تكاليف ذلك بشجاعة -فالفشل دائم الحدوث- لذا يجب أن لا يُستخدم الفشل كعذر لتجنب التفكير الإبداعي والابتكاري. بل لا بد بدلاً من ذلك أن يجتمع القائد بفريق العمل بعد كل فشل لمناقشته واستخلاص الدروس وليس لإلقاء اللوم. بعبارة أخرى، إذا غامرت وخضت المخاطر قد تنجح، لكنك إذا لم تقم بالمغامرة فإنك تحكم على نفسك بالفشل.
أحد صور هذه المغامرة التي يُنصَح بخوضها هي أن يقوم القائد بتفويض المسؤولية للموظفين، مما يعني السماح لهم بالقيام بأعمالهم الموكلة إليهم بالطريقة التي يريدون، شريطة أن يكون اختياره للعاملين اختياراً موفقاً مبنياً على مدى ملائمة المهمة لشخصية الموكل بالقيام بها لما للتفويض من أثر داعم لتشجيع الموظفين على المبادرة والابتكار. وعلى العكس من ذلك، فإن الروح الابتكارية تموت والمبادرة تنعدم لو تعامل مسؤول الشركة بحذر شديد واقتصر على الأسلوب الآمر الذي يلقي بالمهمة للموظف مع طريقة معينة لأدائها مُجبراً إياه على السير وفق تعليمات محددة.
خامساً: البيئة الداخلية السليمة
"المدراء يطلبون الاحترام، والقادة يكسبون احترامهم".
تتسم البيئة الداخلية لدى المنظمات الابتكارية بروح التعاون والاحترام والمبادرة بالعطاء، وذلك نظراً لأسلوب التعامل في هذه المنظمات الذي يدعو إلى المشاركة في اتخاذ القرار وحل المشكلات ويدعم التفكير الإبداعي، فهو يصوغ سياسات عامة بدلاً من القواعد والأوامر، كما أنه لا يركز على الخطابات والمذكرات، وهذا لا يعني الفوضوية وإبطال النظام وإنما المقصود هو اعتماد نظام مرن للمنظمة يفتح مجالاً أكبر للإبداع وحرية التفكير، فالنظام الصارم يقتل الإبداع في حين أن عدم النظام يثير الفوضى لذلك فالتوازن مطلب لاسيما وأنه بالتأكيد لن تكون شخصية جميع الموظفين في المنظمة على نمط واحد، بل لا بد أن يكون من بينهم من هو التنفيذي الذي يستصعب عليه العمل دون وجود أوامر وتعليمات محددة.
إضاءات أخيرة:
- "إذا كان صوت البوق غير واضح، فمن سيستعد للمعركة؟" وذلك يعني أنه لا بد أن يوضح فريق القيادة في المنظمة مدى التزامهم بالتغيير الإيجابي وتشجيعهم للابتكار.
- يعد التفكير الاستراتيجي مٌنقذاً من سلطة الحاضر، فهو يساعدنا على التفكير في المستقبل المأمول بمفردات أكثر شمولية.
- الخطر هو أخ الابتكار، ومثلما يقول المثل الياباني: " إذا لم تدخل عرين النمر، فلن تستطيع أن تأخذ الأكواب".
- نتيجة ابتكارات الأمس لا بد أن تُصنَع ويُسوَّق لها بشكل جيد وتُباع، فإذا لم تُوجِد المستهلك الراضي اليوم فلن تستطيع أن توجد شيئاً غداً.