التفكير الجيد ليس بالعملية السهلة، بل يحتاج للكثير من الوقت والجهد، ولهذا تمت تسمية أصحاب الأفكار الكثيرة والمتجددة بالمبدعين، ووفقاً لمثل هذه التسمية البراقة، فإن الكثير يحلمون بأن يُدرَجوا ضمن قائمة المبدعين، وأصبحت المؤسسات التعليمية والتجارية تحث وتدعوا إلى الإبداع بل وتتنافس في خلق بيئة أكثر تحفيزاً لتوليد الأفكار الإبداعية.
وفي المقابل، فإنه من المهم أن يدرك الجميع أن امتلاك فكرة ما لا يعني النجاح بالضرورة. وأن الأفكار الإبداعية التطويرية قد تقود مؤسسة ما إلى الخسارة بدلاً من أن تساهم في تطويرها، إذا لم تتم دراستها بدقة وفقاً للإمكانات البشرية والمادية المتاحة، للمؤسسة ووفقا لآلية سير السوق وطبيعة العملاء.
بمعنى آخر، فإن الفكرة الجديدة المبدعة المجردة من الدراسة والتمحيص لا تكفي للنجاح، كما أن كثرة الأفكار قد تسبب التشتت لصاحبها وبالتالي الفشل، ما لم يوظف إبداعه بعقلية واعية لمتطلبات الوسط الذي يعيش فيه.
الإبداع وسيلة لا غاية
إن الدعوة إلى تجنب التشتت في الأفكار لا يعني إبطال العقل وإيقاف العملية التفكيرية، وإنما يعني تعلم فلسفة إدارة الأفكار وترتيب الأولويات والتوعية بأهميتها، إلى جانب التحفيز على التفكير.
لذا على الفرد عند انضمامه إلى شركة جديدة أو عند افتتاحه مشروعاً خاصاً، أن يستوعب المحيط من حوله أولاً، ليدرك جميع المشاكل ويطَّلع على جميع الأفكار المطروحة، وبناء على ذلك يبدأ مرحلة بناء الأفكار. هذا، ويلي مرحلة بناء الأفكار، دراستها بعمق وفقاً للمعطيات الموجودة، بعدها تأتي مرحلة الحكم على الأفكار ومقارنتها بالأفكار الأخرى المتاحة، و أخيراً تأتي مرحلة التنفيذ.
الخروج من المأزق
حين يُطلب منك إجراء بحثاً ما، فإن الكثير من الأفكار ستتقافز إلى عقلك، فهناك الكثير لتكتب عنه وهناك الكثير لتناقشه، لكن ذلك ليس كافياً بالتأكيد، فحين تمسك بالقلم لتبدأ بكتابة البحث ستجد أن جميع الأفكار تشابكت وأن خيط البداية قد ضاع والرؤية قد غامت والطريق متاهة لا نهاية لها، والطريق لا ينتهي هنا، لكن ليس عليك أن تطالب بتغيير الموضوع، بل عليك أن تفكر بايجابية وتنظيم أكثر.
لعل من أكثر الأدوات المساعدة في مثل هذه المواقف المحيرة، هو استخدام الخريطة الذهنية (MIND MAPPING) ، والتي تشبه الخلية العصبية في الشكل وآلية العمل، فهي تعتمد على نقطة مركزية تتفرع منها أفرع كثيرة، وكل فرع بدوره تتفرع منه أفرع أصغر وأدق. هذا وتشكل الفكرة الرئيسية النقطة المركزية للخريطة الذهنية، في حين تشكل الأفكار الثانوية الخلايا المتفرعة، وبمجرد انتهاء كتابة الأفكار بهذه الطريقة، سيجد الفرد نفسه أمام عمل ذهني منظم يتيح له فرصة أكبر لمضاعفة الإنتاج.
فحين تشرع في التفكير في أمر معين ولم تسعفك الأفكار في إنتاج الصورة النهائية، فامسك القلم وسم الله، و ابدأ في رسم خريطتك الذهنية الخاصة بك، حينها ستجد الأفكار تنهال عليك من كل حدب وصوب.
لوَّن الفكرة الرئيسة بلون داكن، ثم اجعل اللون " فاتحا " أكثر كلما تفرعت الفكرة، لا ترتبك حين تأتيك الفكرة ولم تعرف في أي فرع تضعها، بل تجاهل الترتيب وضعها في أي مكان، أو أوجد فرعا جديداً، فالانشغال بالترتيب قد يعيق تدفق الأفكار وتواليها.
حين يمر عقلك بمرحلة تراخي وجمود، حاول رسم دوائر وأفرع أخرى أو أعد رسم الأفرع، فعمل كهذا قد يحفز العقل ويدفعه إلى التفكير.
متى يجب أن تتوقف عن التفكير
قد يواصل البعض التفكير بحثاً عن حلول إبداعية لمشكلة ما تواجهه، فلا ينام ولا ينال قسطاً من الراحة، معتقداً بذلك أن انقطاعه عن التفكير قد يقطع بدوره حبل أفكاره وينسيه ما بدأ به، وتصرف كهذا لن يفيده من الناحية الإبداعية في شيء، ولهذا وضّح العلماء متى يجب أن يتوقف الفرد عن التفكير، واعتبروها مهارة من بين المهارات المهمة التي تجعل الفرد على اتصال بذاته المبدعة.
فإذا توقف الفرد في وقت أبكر من اللازم فإنه لن يصل إلى أفضل الأفكار، وبالتالي ستقل قدرته على الوصول إلى شبكته الداخلية، ويُضعِف التجاوب المثمر المتمثل في ارتباطات وصور شيقة للخريطة الذهنية ، وسيصعب حينها التعرف على الفكرة الجيدة أو على الحلول المناسبة للمشكلة، كما أن متابعة التفكير العميق لوقت طويل، لن يسمح للفرد بالتفكير بطريقة مبدعة.
وبشكل عام لا يوجد وصفة أو كتاب إرشادي يخبرنا في أي لحظة يجب أن نتوقف عن التفكير، ولكن الحدس يلعب دوراً كبيرا في ذلك استنادا على بعض الدلائل والمؤشرات. فمثلا: حين تشعر أنك بدأت تدور في حلقة مفرغة، عندها توقف عن التفكير، وحين تشعر أنك أسير لنظرة معينة للمشكلة، دع كل شيء وتوقف عن التفكير، وعندما تشعر أن الكلمة في ذهنك ولكنها لا تتعدى ذلك، توقف عن التفكير، وستأتيك فيما بعد بإلهام سحري.
وكذلك، حين تشعر أنك متعب وبدأت تفقد القدرة على التركيز، فإن لبدنك عليك حقاً لذا توقف عن التفكير.
يقول أندرو جروف (1936- Andrew Grove) المدير التنفيذي الذي جعل من شركة انتل عملاقا في مجال صناعة الشرائح الدقيقة): "إن يومي ينتهي دائماً عندما أشعر بالتعب، وليس عندما أنتهي من العمل".
الإبداع لا يعني النجاح دائماً، لذا فحتى يكون الفرد ناجحاً، فإن الإبداع والأفكار المختلفة وحدها لا تكفي، بل لا بد أن يتعلم الفرد كيفية وضع الأهداف وتنظيم الخطط والأفكار ويرتبها بحسب أهميتها وأولويتها، كما يجب عليه أن يتعلم متى ينهض متوقفاً عن التفكير، ومتى عليه أن يظل مستمراً يطارد الفكرة ذات اليمين وذات الشمال.