هناك مثل كوري يقول: "حتى الجبال تتحرك في عشر سنوات،" لكن ما نشاهده حالياً في كوريا يجعلنا نقول أن ما تحرك هو أكثر من ذلك بكثير.
القصة من البداية
في بداية الستينات كانت كوريا دولة نامية فقيرة الموارد والإنتاج، بل إننا نستطيع القول أنها كانت عبارة عن مجرد سوق محلي صغير مكتظ بالسكان الذي كان يعتمد وبشكل كبير على القوى الأجنبية، أما وضعها الاقتصادي فقد كان متدنيا جدا واقتصادها يقتصر في معظمه على الإنتاج الزراعي، في حين كان تفاعلها الاقتصادي الدولي محدوداً جداً.
أما فيما يتعلق بالعلوم والتقنية، فقد كان وضعها أسوأ بكثير، أشبه بالأرض الجدباء، حيث كانت كوريا بعيدة كل البعد عن عالم العلوم والتقنية فلم يكن فيها سوى منشأتين عامة للعلوم والتقنية واحدة تختص بالبحث والتطوير تم إنشائها مباشرة بعد الحرب الكورية، أما المنشأة الثانية فهي تختص بأبحاث الطاقة الذرية الكورية.
وينسب التاريخ هذا التخلف العلمي والصناعي الذي كانت تعيشه كوريا الجنوبية إلى ما عانته من مشكلات عديدة جراء الاستعمار الياباني، وما يثبت ذلك هو أنه بمجرد انسحاب القوات اليابانية من الأراضي الكورية استطاعت كوريا أن تنجح في بناء نظام ابتكاري متفرد عن طريق الاستثمارات الضخمة في مجال التقنيات.
منعطف التحول
لم تكن عصا موسى هي سر هذا التحول العظيم في الاقتصاد والثقافة الكورية، لكن الحكومة اكتشفت في وقت مبكر أهمية مجالي العلوم والاقتصاد وأدركت أن البحث والسعي للتطبيق والممارسة والتدريب والتطوير من شأنه أن ينقلها نحو أفاقٍ أفضل؛ فحولت توجهها وفقاً لهذا الإدراك، وبدأت تستثمر في تطوير الموارد البشرية وأجبرت الشركات على دخول الأسواق العالمية حتى أصبحت أحد أعظم محرك اقتصادي للسوق الدولية.
من جانب آخر، لعبت كفاءة الأبحاث العلمية المستمرة دوراً هاماً في عملية التحول وأصبحت كوريا بذلك محرك ثاني للتطوير الصناعي. أما اليوم فإن كوريا تعترف بأنها لا بد أن تدعم النظام الأساسي للابتكار حتى تضمن الاستمرارية وتنعم بالازدهار.
لقد وضعت كورياً عدة أهداف تركز عليها وتسعى لتنفيذها حتى تحقق النهضة التي تأمل بها، فشجعت التحول الداخلي من التقنية الأجنبية ورفع مستوى الكفاءة المحلية واستيعاب وتقليد وتطوير التقنيات المُحوَّلة، وبناء على ذلك قامت بإطلاق خطتها الخمسية الأولى للتطوير الاقتصادي هادفةً إلى تطوير الصناعة لدعم حركة الاستيراد والتصدير. ولكن الشح الذي كانت تعانيه في الكفاءة التقنية أجبرها أن تعتمد بشكل كامل على التقنيات الأجنبية المستوردة.
الحكومة الكورية لم تكتف بمجرد التخطيط بل طبقت ما خططت إليه، فشجعت شعبها على تعلم التقنية، وطوَّرت من كفاءتهم التقنية، وبذلك استطاعت أن تستجيب للاستثمارات الكبيرة في المجال التقني، بل واستطاعت أن تخلق الفرص السوقية للصناعة المحلية، حتى وصلت كوريا إلى السوق الدولية.
لقد أشار دراكر (P.F.Druker) إلى أن آدم سميث (A. Smith) كان يرى أن نقل تقليد العمل في صناعة ما من بلد إلى بلد آخر (أي نقل التطور من بلد صناعي إلى آخر غير صناعي) يستلزم مائتي عام، إلا أن الكوريين تجاوزوا ذلك كله واستطاعوا في حقبة زمنية لا تتعدى العشرين عاماً أن يحققوا نجاحاً صناعياً في تجربة طموحة لا زالت تتطور وتطمح إلى المزيد من النجاح والتفرد والصدارة.
كوريا الآن
نجاح كوريا كان عاملاً محفزاً لها نحو مزيد من التقدم والنجاح لتصل إلى هدفها الأهم وهو أن تكون كوريا دولة صناعية قوية، فلم تتراجع ولم تقف بل ولم تسر على نفس الطريق، وإنما آمنت بضرورة الانتقال إلى مرحلة أخرى من مراحل خططها الطموحة. فبينما كانت تعتمد حتى الخمسينات على الخبرة التقليدية المحلية، انتقلت إلى مرحلة التقليد الاستنساخي حتى الثمانينات، في ذلك الوقت توسعت شركاتها الخمس الرئيسية وهي: سامسونج، هيونداي، دايوو، لاكي كولدستار (وهي المعروفة اليوم باسم LG ) وأخيراً هانجين، بعد ذلك وفي التسعينات تحديداً تجاوزت كوريا ذلك لتنتقل إلى مرحلة التقليد الابتكاري أو الابتكار التحسيني، أما الآن وبعد أن نجحت في هذه المراحل جميعها فإنها أصبحت تسعى إلى الانتقال من التقليد الابتكاري إلى الابتكار الذاتي.
مما تجدر الإشارة إليه إضافةً إلى ما سبق أن هناك عدة عوامل إضافية ساهمت في هذا النجاح الكوري، منها؛ البيئة الاجتماعية والاقتصادية المشجعة للنمو السريع والمتمثلة بالتراث الكونفوشي، فالكونفوشية على سبيل المثال تقوم على الرغبة العالية في التعليم (وهذا يمثل الأساس في القدرة على استنساخ ما لدى الآخرون)، كما يقوم على الانسجام بين أفراد الأمة (وهذا يفسر علاقات الانسجام في العمل)، والالتزام بالهدف الأعلى (وهو ما قام به الكوريين حيث وضعوا هدفاً وطنياً أعلى يتمثل باللحاق باليابانيين).
ثاني عوامل النجاح الكوري هو الدور الفعال والقوي الذي لعبته الحكومة الكورية لإيجاد اقتصاد مستقر نسبياً في ظل التخطيط الاقتصادي والتصنيع السريع المُوجَّه للتصدير والتجارة الخارجية من خلال الإنفاق الحكومي، والتوجيه بالاعتماد على الإعفاءات الضريبية للصناعات المرغوبة، وحماية للسوق المحلية عن طريق وضع العقبات التعريفية وغير التعريفية هدفاً نحو التنمية الوطنية.
كوريا واليابان وجهان لعملة واحدة
من الملاحظ أن كوريا تسير على نفس خارطة الطريق اليابانية مما حدا بعض العلماء أن يقولوا أن النموذج الكوري ما هو إلى تكرار للنموذج الياباني، وهذا صحيح مع بعض التحفظات التي نحتاج إلى تفسيرها فيما يلي من النقاط:
1- تمثل اليابان الجار الأقرب للكوريين الذين يتطلعون إلى التطور السريع والدور الاقتصادي في السوق الإقليمية والدولية. إضافةً إلى أن اليابان قامت بدعم كوريا الجنوبية بالاستثمارات وإقامة المصانع فيها لتساهم في مزيد من الاستقرار الإقليمي وتُشكِّل الحزام الباسيفيكي المتطور الذي تطمح إليه كقوة اقتصادية في عالم ثلاثي القوى الاقتصادية: أمريكا، وأوربا واليابان، كما أنها كانت تستفيد من رخص الأيدي العاملة الكورية. ولكن سرعان ما استطاعت كوريا أن تنمي شركاتها لتدخل بذلك في منافسة إقليمية ودولية مع الشركات اليابانية.
2- تقوم التجربة الكورية على التقاليد والمعتقدات الكونفوشية، ومثلها اليابان التي تقوم على نفس التقاليد والمعتقدات التي انتقلت إليهما من الحضارة الصينية. ووفقاً لذلك لعبت كلا التجربتين قديماً دوراً متشابهاً من حيث المحاكاة والتقليد الجيد للحضارة الصينية القديمة، أما في العصر الحديث فإن الكوريين وجدوا في التجربة اليابانية أنموذجاً للتقدم السريع والإنتاجية العالية التي تستحق المحاكاة والتعلم.
ورغم ذلك، فإن كوريا تحاول أن لا تكون مجرد مُقلِّد ومتعقب للنموذج الياباني بل تسعى مقابل ذلك إلى المنافسة مع اليابان، هذه حقيقة اتفق عليها الباحثين ولكنهم اختلفوا في دوافع ذلك فمنهم من يقول بأن هذا ناتج عن الإرث التاريخي الذي ينظر لليابان كقوة استعمارية في حين يرى الآخرون أن هذا ناتج عن تأثير اللوبي الأمريكي في كوريا الذي يهدف إلى إضعاف اليابان، ولكن الدافع الحقيقي قد يكون لا هذا ولا ذاك، وإنما هو الغريزة الإنسانية نحو النجاح والتميز والصدارة، وأياً يكن الدافع فإن المطَّلِع على التاريخ الكوري لاشك يمكنه أن يستشرف لها مستقبلاً مشرقاً مشرِّفاً يليق بسعيها.
لماذا كوريا؟
باختصار، إن التعليم المتقدم المتخصص في العلوم والتقنية لا بد أن يأتي أولا أثناء الإعداد للدخول إلى السوق الدولية. وليكن لنا في النموذج الكوري درساً فالتعليم والصناعة هناك دعما بعضهما البعض في تشجيع وتسريع التنمية، وذلك بأن ساهم التعليم في اكتساب المعرفة التقنية وبالتالي أصبحت الصناعة أمرا ممكناً، في حين عززت الصناعة الاستثمار في العملية التعليمية وروجت لطلب أكثر على التعليم.