يروي الجميع قصة نيوتن باختصار فيقولون، أنه كان تحت الشجرة في يوم من الأيام وسقطت عليه التفاحة فجأة، فنظر إليها وتساءل: لماذا سقطت التفاحة من الأعلى إلى الأسفل؟ وهذا ما قاده إلى اكتشاف سر الجاذبية الأرضية، هكذا بكل بساطة! ويقولون أيضاً: بأن أرخميدس حينما كان يسبح اكتشف مبدأ الطفو فجأة، وخرج من الماء عارياً وهو يصرخ من هولِ المفاجأة "(Eureka) يوريكا يوريكا" أي وجدتها!
وعليه، أصبح بعض الناس يرددون أن الخيال هو الإبداع، وأن الابتكار هو ومضة إلهام، والنجاح وليد لحظة، وبناء على هذه المفاهيم الفضفاضة شاع سوق جلسات الاسترخاء والتأمل، ورُمِيَ بضرورةِ العملِ الجاد على الهامش حتى حين! الأمر الذي يستدعي منا وقفة إرشادية كأفراد فاعلين في المجتمع وكمُرَبِّين ومعلمين وأولياء أمور.
سقوط التفاحة كان مجرد قشة!
مما لا شك فيه، أن أحداً لا يستطيع إنكار فائدة جلسات الاسترخاء والتأمل في تحفيز الخيال والتفكير، كما لا ينكر أيضاً ما قاله العلماء بأن الإنسان الذي ليس لديه خيال فكأنما ليس لديه أجنحة. ولكن الواجب أن لا ننسى أن الشخص الذي يتمتع بالخيال دون العلم فكأنما لديه أجنحة دون أقدام، نعم، قد يستطيع الطيران، ولكنه لن يستطيع السير أو الهبوط أو حتى التوقف! كما يجب أن لا ننسى أن اكتشاف نيوتن للجاذبية جاء بعد أفكار راودته كثيراً، وأن سقوط التفاحة أعقبه عمل شاق استطاع من خلاله وضع قوانين الجاذبية الأرضية وإثباتها. أما أرخميدس فقد كان قبل أن يسبح في بِركة القصر، يقطع باحات هذا القصر جيئةً وذهاباً ويقرأ ويمحص يميناً تارة وأخرى لينفذ أمر الملك (ايرو) باكتشاف ما إذا كان التاج الملكي قد صُنِعَ من الذهب الخالص أم أنه خليط من الذهب والفضة؟ وبعد أن أرهقه التفكير والبحث، وجد الماء فسبح فيه ليستريح، وحينها وجد أن الماء يندفع من الجانبين عندما يغمر جسمه فيه، عندها أتته فكرة توظيف ذلك في قياس نقاوة مادة صنع التاج مستعملاً قطعة من الذهب الخالص وأخرى من الفضة النقية كلاً على حده من خلال غمرهما في الماء وقياس كمية المياه المزاحة، ومن ثم المقارنة! إذن الأمر لم يكن مجرد ومضة بل سبقها تفكير مضني للعقل، وتبعها تجريب واختبار، وأن اللحظات التي قيل عنها ومضة كانت كما القشة التي قصمت ظهر البعير، أو القطرة التي أزاحت الماء.
وبالتالي، من الهامِّ أن ندرك أنه حتى لو امتلكنا أكثر الأفكار ابتكاريةً، وقدرةً على تغيير العالم في العقد القادم، فمن المحال تنفيذها وجعلها ابتكاراً حقيقياً على أرض الواقع دون أن يتبعها عملٌ جاد وبحثٌ وتقصي واختبار وتجريب، وهو ما يسمى بعملية توظيف الفكرة. فعلى مر التاريخ، لا يوجد ابتكار كبير ومؤثر لم يمر بساعات عمل طويلة من الاختبار والتجربة والتعديل والتحسين حتى أصبح على ما هو عليه. ليس ذلك فحسب، فحتى لو تحقق العلماء من صحة اكتشافاتهم التي أتتهم في لحظة أو لحظات إلهام فإنهم مطالبون بدراسات وبحوث تقنع العالم وتثبت للبشرية مصداقية آرائهم ومدى الفائدة المرجوَّة من هذا الابتكارات.
أفكار (ستار تريك) جيدة، ولكن لم يكن ذلك كافياً!
على سبيل المثال؛ كانت الهواتف المحمولة مجرد فكرة تم طرحها في (Star Trek ))ستار تريك) (وهو برنامج كان يُعرَض في الستينات، إلا أنها لم تخدمنا كواقع عملي تطبيقي إلا بعد عقودٍ من التطوير والتجريب التقني.
"إذا جلست دائما تنتظر ومضة الإلهام فمن المحتمل ألا تأتيك أبداً، بل بدلاً من ذلك عليك بالعمل المستمر والتجربة، فإذا شعرت أن هناك ما هو جيد فاستمر بالعمل عليه."
هوف، 1968 مخترع أول معالج دقيق (إنتل، 2004 )
حتى العمل الجاد وحده لا يكفي!
إضافةً إلى ومضة الإلهام والبحث والجهد، فإن الابتكار يحتاج أيضاً إلى منشآت تُنَفِّذ الابتكار، ومؤسسات تجارية تدعمه وتسوقه للعالم. وهنا، يتضح دون شك أن فكرة الابتكار هي مجرد مرحلة صغيرة من مراحل إنتاج الابتكار، وأن الفكرة لوحدها لا يمكن أن تقدم ضماناً كافياً لنجاح المُبتَكَر.
فعلى سبيل المثال لا الحصر: يكفينا أن ننظر إلى أبرز ابتكارات القرن العشرين في المجال التقني كالشبكة المعلوماتية العالمية، ومتصفح الانترنت، وفأرة الحاسب، ومحرك البحث – وهي أربع تطورات هامة في تاريخ الأعمال والتقنية- حينها سنجد أنها تحتوي على سلسلة طويلة من البحوث والتجارب. ليس ذلك فحسب، بل جاءت نتيجة لتعاون العديد من الأفراد والمنظمات، وأخذت سنوات إن لم تكن عقوداً من العمل قبل أن تتحقق.
من ماصة العشب إلى ماصة الورق!
"حين يفكر المبتكر الناجح فإنه قد يصل إلى فكرة ذكية في ومضةٍ من الإلهام؛ ثم يذهب لِيُطَوِّرها دون أن يفكر في الصفقات التي ستدُرُّها عليه فكرته، أو الإثارة التي ستخلقها له في عالم الصناعة، أو المليون دولار التي قد تجلبها له، ولا حتى التفكير بأن يكون غنياً في غمضةِ عين. فمعظم من يحرصون على تحويل الفكرة إلى ابتكار متميز يفشلون سريعاً. في حين أن الابتكار المتميز في حقيقته قد تكون بدايته فكرة بسيطة، ولكن عمل المُفَكِّر المتواضع الطموح وبراعته التقنية حوَّلتهُ إلى منتج يستحق أن يُغَيِّر العالم."
دراكر، 1993
لقد خطر ببال مارفين ستون ذات مرة - وهو يشرب شرابه المفضل الجلاب بالنعناع من خلال ماصات عشبية- أن يصنع ماصة ورقية محاكاةً لحاملات السجائر الورقية، لاسيما أن الماصة العشبية كانت تستعمل أكثر من مرة مما يجعلها تتشقق أو تتعرض للغبار حين يتم تجفيفها. وشعر ستون بالحماس وهو يأمل أن يستمتع بشراب الجلاب أكثر، فبدأ يختبر فكرته حيث أخذ قطعةً من الورق الطويل الرقيق، ولفها حول قلم الرصاص، ثم ثبت طرف الورقة بنقطة من الصمغ.
بعد ذلك، صنع ستون مجموعة من هذه الماصات لاستعماله الشخصي وطلب من القائم على بيع الشراب تقديمها له مع شراب الجلاب، ولم يمر وقت حتى لاحظ العملاء الآخرون كيف يشرب ستون شرابه، فرغبوا هم أيضاً أن يشربوا الجلاب بالماصات الورقية.
ومرة أخرى فكر ستون أنه سيكون من الممتع أن يشرب عصير الليمون بالماصات الورقية أيضاً، لهذا صمم ستون ماصة ورقية بطول 8.5 بوصة، وبقطر لا يسمح بمرور بذرة الليمون. وكان الورق الذي اختاره ستون هو ورق القنب المغطى بشمع البارافين، لمنع امتصاص الماء ولئلا يفقد الورق متانته بعد أن يوضع في السائل. وقدر ستون أن اختراعه سيكون مطلباً عاماً للناس، ولهذا حصل على براءة اختراع، واقترح أن تستخدم هذه الماصة لأنواع المرطبات كافة. ولم تحل سنة 1890 إلا وقد أصبحت مبيعات الماصات ترتفع كل شهر، واحتاج ستون أن ينتقل من مقر مصنعه إلى مصنع أكبر مرات عدة. ورغم أن ستون هو الذي اخترع مبراة الأقلام، وحاملة لقلم الحبر، وعدة أشياء أخرى إلا أن اختراعه وتطويره لماصة الشرب هو ما جعله رجلاً شهيراً.
وأخيراً...
فإن ثمةَ ما نود أن نَخلُص إليه ونُؤَكِّد عليه وهو؛ أنه من الرائع أن يكون لديك أفكار، لكن الأروع أن تُطَبِّقها بنجاح لتساهم في تطور العالم من حولك.