ينتاب بعض أولياء الأمور القلق بشأن نسبة ذكاء أطفالهم، ويذهب إلى بعض المراكز التربوية طالباً تطبيق اختبار ذكاء على ابنه للتحقق من نسبة ذكائه.
ويبدو أن هناك اعتقاد لدى هؤلاء الآباء بأن نسبة الذكاء هي المنبئ الرئيس بالنجاح في الدراسة ومختلف مجالات الحياة.
وعلى الرغم من محاولة شرح طبيعة هذه الاختبارات وحدودها لأولياء الأمور فإن بعضهم يظل محتفظاً ببعض المعتقدات الخاطئة حول طبيعة اختبارات الذكاء وحدودها.
لقد استثار مفهوم الذكاء الإنساني الباحثين في مختلف المجالات، وخلال عقود مضت اقترح الباحثون العديد من النظريات التي حاولت تفسير طبيعة هذا المفهوم من خلال رؤىً متباينة، ففي حين ركز البعض على مفهوم القدرة العقلية العامة اقترح البعض الآخر قدرات متعددة وأخيراً ذكاءات متعددة، وتباينت رؤاهم حول مدى تأثر الذكاء بالعوامل البيئية والوراثية. كما اختلف مفهوم الذكاء أيضاً باختلاف البيئات والثقافات.
ويعتبر مصطلح الذكاء أحد المصطلحات الواسعة الذي يستخدم لوصف النشاط أو الأداء العقلي للفرد، والذي يشمل العديد من القدرات مثل القدرة على الاستدلال والتخطيط وحل المشكلات، والتفكير المجرد، وفهم الأفكار، واستخدام اللغة، والتعلم. وفي الحقيقة لا يوجد اتفاق بين الباحثين في المجالات المختلفة على السمات أو القدرات التي يتضمنها مفهوم الذكاء، فهو يضيق أحياناً ليشير إلى قدرة عقلية عامة واحدة، ويتسع أحيانا أخرى ليشمل خصائص متعددة مثل الإبداع والشخصية والحكمة.
وقد بدأت محاولات العلماء لقياس الذكاء الإنساني بشكل علمي مع نهايات القرن التاسع الميلادي على يد العالم الانجليزي السير فرانسيس جالتون الذي اعتقد أن ذكاء الفرد يرتبط بحواسه كالسمع والبصر وزمن رد الفعل، ولذا فقد اعتقد جالتون أن أنه يمكن قياس الأداء الوظيفي للعقل من خلال اختبارات التميز الحسي وزمن رد الفعل.
ويعتبر مقياس الذكاء الذي أنشأه عالم النفس الفرنسي ألفرد بنييه أولى المحاولات الناجحة لقياس الذكاء الإنساني، وكان بنييه هو أول من استخدم مفهوم العمر العقلي. وعلى الرغم من أن الهدف من تطوير هذا المقياس كان التعرف على الأطفال بطيئي التعلم الذين لا يستطيعون مواصلة التعليم في المدارس العادية، إلا أن المقياس استخدم فيما بعد للتعرف على الأطفال الموهوبين، ففي بدايات القرن العشرين قام عالم النفس الأمريكي لويس تيرمان في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة بتطوير هذا المقياس الذي أشتُهِر باسم "مقياس ستانفورد بنييه".
ويُعبَّر عن ذكاء الفرد بمفهوم نسبة الذكاء IQ، وتحسب هذه النسبة من خلال نسبة العمر العقلي إلى العمر الزمني وضرب الناتج في 100، ولذا فإن نسبة ذكاء الفرد تكون متوسطة إذا كانت تساوي 100 أو قريبا منها، وكلما زادت عن ذلك كان الفرد أكثر ذكاء حتى إذا وصلت إلى 130 فأكثر فإن الفرد يعد موهوباً، وكلما انخفضت عن 100 كان الفرد منخفض الذكاء فإذا وصلت النسبة إلى أقل 70 كان ذلك مؤشرا على أن الطفل لديه تخلف عقلي. ووفقا للمنحنى الاعتدالي الذي يوضح توزيع نسب الذكاء الإنساني فإن حوالي 2.1% من المجتمع لديهم نسبة ذكاء أعلى من 130 ، وأن حوالي 2.1% لديهم نسبة ذكاء أقل من 70.
المنحنى الاعتدالي لتوزيع القدرة العقلية
ويوجد استخدامان أساسيان لاختبارات الذكاء داخل المؤسسات التربوية، الاستخدام الأول يهدف إلى تقييم الاعاقات العقلية وصعوبات التعلم.
والاستخدام الثاني يتعلق بالقبول في الكليات والجامعات. وفي الولايات المتحدة تستخدم بعض الجامعات اختبار الـ SAT Reasoning Test (المعروف سابقاً بــ (Scholastic Aptitude Test & Scholastic Assessment Test) ، بالإضافة إلى درجة الطالب على اختبار التحصيل معا كأساس للقبول في العديد من الجامعات الأمريكية. وفي الآونة الأخيرة قل استخدام اختبارات الاستعداد التي تركز على السمات المعرفية الثابتة وذلك لصالح اختبارات التحصيل التي تقيس المعارف والمهارات المتعلمة خلال الصفوف الدراسية والتي أضحت أكثر شعبية وقبولاً.
وعلى أية حال هناك جدل واسع حالياً حول شرعية وقيمة الاستمرار في استخدام درجات هذا الاختبار في قرارات قبول الطلاب بالجامعات داخل الولايات المتحدة.
وقد تعرضت اختبارات الذكاء لانتقادات عديدة، منها أنها متحيزة ثقافياً وأنها غير قادرة على التعرف على الطلاب الموهوبين في الأقليات والجماعات المختلفة ثقافياً. كما يرى البعض أنها غير قائمة على نظرية توضح كيفية عمل العقل الإنساني، وأنها لا تقيس الأفكار الحديثة عن الذكاء التي تقترح وجود أنواع مختلفة من الذكاء الإنساني.
نموذج لأحد فقرات اختبارات الذكاء
ولا يزال استخدام اختبارات الذكاء مثاراً للبحث والجدل في البيئات العربية، فمعظم اختبارات الذكاء تم تطويرها في بيئات غربية وهي لذلك تحمل بين طياتها خصائص بيئتها الثقافية والحضارية.
وعلى أية حال فإن عمليات التعريب التي تمت لبعض هذه الاختبارات حاولت إدخال تعديلات على محتوى بعض الفقرات لتناسب بيئتنا وثقافتنا العربية. ولا زالت البيئة العربية تحتاج إلى تطوير مقاييس مقننة أكثر ارتباطاً بالبيئة العربية وخصوصيتها الثقافية والحضارية.
فمن المعروف في مجال القياس النفسي أن الاختبار الذي يصلح لقياس الذكاء في مجتمع ما ليس بالضرورة يكون صالحاً لغيره من المجتمعات، ولذلك فان عملية ترجمة اختبار ذكاء من أحد البيئات الأجنبية أمر يتطلب عملا شاقاً وطويلا للتأكد من أن الاختبار يصلح لقياس الذكاء في بيئتنا العربية.
ويؤكد الكثير من علماء النفس والتربية اليوم على ضرورة أن توجه النظرة الواسعة لمفهوم الذكاء عملية القياس، وألا تكون منفصلة عنه. وتعتبر نظرية الذكاءات المتعددة التي قدمها عالم النفس الأمريكي جاردنر أحد النظريات التي وسعت مفهومنا حول طبيعة الذكاء.
وتقترح هذه النظرية وجود سبعة أنواع على الأقل من الذكاء، هذه الذكاءات هي: الذكاء اللغوي، والذكاء الرياضي/المنطقي، الذكاء المكاني، والذكاء الجسمي حركي، والذكاء الموسيقي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء الشخصي.
كما تعتبر نظرية القدرات الثلاثية التي اقترحها روبرت ستنبيرج أحد النظريات الرائدة في مجال الذكاء والموهبة. وتقترح هذه النظرية وجود ثلاثة أنواع من الذكاء هي: الذكاء التحليلي، الذكاء الإبداعي، والذكاء العملي.
وقد فتحت هاتان النظريتان الأفاق للتعرف على مزيد من المواهب التي تمتلئ بها مدارسنا أكثر مما تفعله النظرية التقليدية التي تنظر إلى الذكاء كقدرة عقلية عامة تتحكم في جميع النشاط الإنساني ويُصنَّف الأفراد على أساسها وفقاً للمنحى الاعتدالي.
وهذا ما جعل هاتين النظريتين تحظيا بقبول واسع لدى علماء النفس والتربويين في المحافل والمؤتمرات الدولية.
وينبغي أن ينتبه الآباء والمربين إلى أن اختبارات الذكاء لا تقيس كل القدرات التي يمتلكها الفرد، فهناك بعض القدرات الخاصة التي لا تقيسها هذه الاختبارات، وبالتالي فإن حصول الفرد على درجة ما لا تضمن في حد ذاتها مستويات عالية أو متدنية من الإنجاز في المستقبل، كما أن هذه الاختبارات لا تقيس القدرات الإبداعية والتي تمثل مصدراً رئيساً لتفسير تباين أداء الأفراد ومستوى النجاحات التي يحققونها في حياتهم العملية.
وثمة نقطة أخرى مهمة يجب أن ينتبه إليها الآباء والمربين وهي أن جميع النماذج الحديثة للموهبة ترى مفهوم الموهبة كبناء معقد يتألف من عوامل معرفية وعوامل وجدانية، حيث يتطلب تطور الموهبة، بالإضافة إلى القدرة، التقاء العوامل العقلية وكثير من العوامل البيئية والاجتماعية والوجدانية بصرف النظر عن المجالات التي تظهر فيها الموهبة.
هذه العوامل جميعها تعمل بطريقة مترابطة ومتفاعلة، فالمعالجة المعرفية لعمل ما تتأثر بالجوانب الوجدانية للفرد وتؤثر فيها أيضاً، وهذا التفاعل هو الذي يجعل العامل الوجداني مهماً، فالفرق بين العوامل العقلية وغير العقلية يكمن في أن العوامل العقلية تشير إلى القوى والعمليات العقلية التي يحتاجها الفرد من أجل تكوين الأفكار، بينما تشير العوامل غير العقلية فتشير إلى الخصائص الاجتماعية والوجدانية والسلوكية التي يمكن أن تساعد أو تمنع استغلال الفرد لكل طاقاته، فالقدرة وحدها لا تؤدى إلى إنجاز كبير.