يجد الإنسان نفسه أحياناً محاطاً بظروف ليس له يد فيها، وأحياناً يجد نفسه محاطاً بظروف أخرى من صنع يديه، نتيجة أعماله، أو طريقة تفكيره، أو نظرته للأمور.
فهل شعرت يوماً أنك يجب أن تتوقف وتسأل نفسك هذا السؤال:
ما الذي أريده، وكيف أريده، وكيف سأحصل عليه؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب تخطيطاً ربما، تحديداً للهدف ربما، ولكنها بالتأكيد، تحتاج كل دافعية ممكنة، توجهك نحو تحقيق ما تصبو إليه..
إنها تلك الرغبة الهائلة التي لا يمكنك معها تجاهل كم تعني لك أهدافك وأفكارك، تلك الرغبة التي تدفعك للقيام من سريرك صباحاً، والمضي بأمل وتفاؤل وإيجابية نحو ما تحلم به وتعمل على تحقيقه.
أثناء ذلك، وبعدما تمضي برهة من الوقت على استمرارك بتغذية أحلامك، يعتريك الفتور، وربما شيء من التكاسل، وتصبح ربما يوماً ما شخصاً تعتريه المزاجية، والتقلب، وبالتالي يتأثر حلمك، وتبدأ نظرتك للأمور تتشوش تبعاً لمزاجك، وكذلك تبدأ انتاجيتك تتأثر بحالة مزاجك ذاك اليوم أو ذاك الشهر أو تلك الفترة.
فهل يجعلك المزاج أقل قدرة على العطاء؟ وهل يعطل بعض ما تحلم به؟
لا شك أن هذه نتيجة حتمية للمزاجية، ولكن.. لو قلنا على سبيل المثال، أنك وجدت نفسك يوماً ما بمزاج ايجابي، ودافعية قوية للعطاء، ولديك حس مرح، يجعل ابتسامتك لا تفارقك، وتنظر لكل الأمور مهما صغرت أنها تستحق التأمل أو الابتسام والسعادة، ثم حصل لك موقف مزعج، أو تصادمت في رأي مع شخص استفزك، وقلل من قيمتك، أو عرّض بشخصك، فما الذي سيحدث؟
ستنتقل حتماً لحالة مزاجية أخرى، عبارة عن مزاج سلبي، يرى السيء في كل شيء، ويتوقع المشاكل، ويخاف المواجهة..
هذه بالتالي حالة مزاجية بكل طرفيها النقيضين، إنها حالة كاملة لابدَّ أن أحداً مرّ بها وعانى منها..
ولكن!
لنعد النظر مرة أخرى لهاتين الحالتين بالطريقة التالية:
وجدت نفسك في مزاج إيجابي يوماً ما، فأصبحت أكثر مرحاً وعطاء، ونتج عن ذلك أعمال إبداعية مميزة.
حدث ما حدث، وانقلب مزاجك على عقبيه، وشعرت بخيبة أمل معينة، وأن كثير من الأبواب أغلقت، تبدأ هنا بالبحث عن حل لمزاجك، فتجرب شيئاً جديداً، أو تعالج مزاجك بما يرفعه ويعدله..
وهنا عمل الدماغ بطريقة عجيبة، حيث أنه في الحالة الأولى انتج وعمل، وفي الثانية عمل أيضاً على البحث عن حل للمشكلة، والانتقال من حالة شعورية إلى أخرى.
ما الذي تقوله لنا هذه التجربة أيضاً؟
هذه التجربة في الحقيقة ليست كلاماً شعوريا متدفقاً كتبه شخص يمرّ بحالة مزاجية، إنما أثارت هذه الحالة تجارب وملاحظات علمية كانت مثمرة جداً، لعل من أبرزها دراسة مستفيضة أساسها حركة لعلماء النفس الاجتماعي لتأسيس وتوضيح دور العاطفة والشعور في معالجة المعلومات وأداء المهام، وقد أثمرت جهودهم نتائج باهرة، مع العديد من الدراسات التي تظهر بأن التجارب العاطفية تسهم بعمق في تشكيل منهج الحكم واتخاذ القرارات وحل المشكلات لدى الإنسان. (بارس، 1986).
لقد طور شوارتز وزملائه من علماء علم النفس الاجتماعي (شوارتز 1990، 2001، شوارتز، بليس وبوهنر 1991، شوارتز وكلور 1996) نموذجاً اسموه "الأحاسيس كمعلومات" يلخص دراستهم المستفيضة والمفيدة، وهنا أبرز ما جاء في هذا النموذج:
"الأحاسيس كمعلومات"
• المزاج الإيجابي يجعلك تعيش في سلام، مما يحثك على البحث عن حوافز ودوافع كالمرح والفكاهة، بينما المزاج السلبي يجعلك في حالة من الوعي بالمشاكل من حولك، مما يحثك بالتالي على البحث عن حل لتلك المشاكل.
• بناء على الفرضية السابقة يفترض أن يعزز المزاج الإيجابي الجهود التي تبذلها في المهام التي تعتبر خفيفة ومرحة، وتترك تلك المهمة والجدية للمزاج السلبي.
• في مجال تكوين الانطباعات، فإنك إن كنت تعاني من سوء المزاج سيكون لديك ميل أقل لوضع الناس في قوالب والحكم عليه، بينما سيكون ميلك أعلى إن كنت في مزاج جيد.
• مزاجك الإيجابي بالنسبة للسلبي قد يعزز الإبداع حتى في الحالات التي لا يكون للمهمة التي تنوي أدائها صلة بمشاعرك.
هذا يقودنا لتساؤل ..
هل صحيح أن الأشخاص ذوي الحالات العاطفية السلبية يتفوقون على ذوي الحالات الإيجابية في العمل والتفكير والأداء؟
ذكر (شوارتز 1990، شوارتز وبليس 1991) أن الحالة العاطفية لا تؤثر فقط على حجم العمل بل على نوعيته وأسلوبه أيضاً.
حيث أن الحالات العاطفية السلبية تزيد المجهود المبذول في أداء المهام فإنها أيضاً تؤدي إلى تجنب خوض المخاطر وتقليل استخدام البدائل غير المألوفة.
لذلك عند قياس الإبداع والمرونة الإدراكية، والتي تستلزم المزيد من المخاطرة واستخدام الوسائل غير المألوفة وليس فقط بذل الجهد، فإن الحالات العاطفية الإيجابية مقارنة بالسلبية يجب أن تزيد من الأداء ولا تقلله.
ونجيب هنا على السؤال: " هل صحيح أن الأشخاص ذوي الحالات العاطفية السلبية يتفوقون على ذوي الحالات الإيجابية في العمل والتفكير والأداء؟" بأن ذلك صحيح نسبياً، حيث أننا يمكن أن ننتج أشياء معينة في المزاج السلبي، وأشياء أخرى مختلفة في المزاج الإيجابي.
لذا نقول بكل أريحية، أن المزاج متى ما عرفت كيف تتعامل معه، فسوف يؤثر في إنتاجيتك بكل طريقة، إن كان إيجابياً أو سلبياً كما ذكرنا.
هل يمكننا توظيف "الأحاسيس كمعلومات" في حياتنا؟
تقول عابدة المؤيد العظم عن جدها العظيم علي الطنطاوي (عابدة العظم، 1998) في كتابها "هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي" : " اهتموا بميول أولادكم، ونموا مواهبهم، وتلمسوا لديهم مواطن الإبداع فزيدوه وطوروه، واستغلوا لهذا الغرض كل مناسبة وكل فرصة، فالشخصية الناجحة المبدعة تأتي نتيجة لتراكم من جزئيات النجاح والإبداع"
إن صدور هذه الكلمة من مربٍ عظيم هو الشيخ الأديب علي الطنطاوي، وفي أخص حالاته مع أبناءه وأحفاده، يدل أن توظيف الأحاسيس كمعلومات هي أداة رائعة للتربوي، وللوالد، ولكل إنسان يرغب أن يعرف نفسه، فإذا عرفت مواطن الصعود والهبوط، ومواطن الضعف والقوة، وخبرتها جيداً، فهذا سبيل نجاح.
ربما بعد اطلاعك بعمق على أبرز ما انتجته العقول في تحليل الحالة المزاجية وعلاقتها بالإبداع والانتاجية، ستتوق أكثر لمعرفة ودراسة حالاتك وذاتك، مستعيناً بأداة الأحاسيس كمعلومات، أو مؤشرات تقودك نحو ما تصبو إليه، واثق الخطى عاقد العزم على تحقيق الخير، والنجاح، والسعادة.
وتذكر قولاً جميلاً لمدرب كرة أمريكي يدعى لو هولتز قاد فريقه لانتصارات عظيمة، كان يقول في كل مرة يخفقون فيها: " أجمل ما في سقوطك، هو نهوضك بعدها مستوياً !".