هل تأملت يوماً لوحة، صورة، أو عملاً فنياً.. فوقفت مبهوراً، منقطع الأنفاس أمامه..؟
هل أخذك خيالك إلى أبعد من حدود الصورة، فتأملت الشخص الذي رسمها، والفنان الذي صورها، والعبقري الذي اتقنها؟
هل تساءلت يوماً.. ما الذي دفع الرسام لريشته، والكاتب لقلمه، والمصور لعدسته..؟
إن دارت في مخيلتك هذه الأسئلة يوماً، فأنت تتعامل مع الفنون بكل تلقائية، كلنا يعرف أن الفنون تؤثر فينا.. لكن هل يمكن للفنون أن تطورنا؟
هل يمكن للرسم مثلاً.. أن يساعدني في فهم أعمق لنفسي، ومعرفة ما أتقنه، وما يمكن أن انتجه وأبدع فيه؟
نعم هذا ممكن!
الرسم والشخصية: دراسة متميزة حول العلاقة بين الاثنين
قضى "بافيل ماتشوتكا 2003" وهو رسام وعالم نفس، خمس سنوات في دراسة 72 حالة لأناس تدربوا على تقنيات الحاسب الآلي باستخدام برنامج ادوب فوتوشوب لإضافة صور مختلفة مع بعضها لابتكار منتج جديد.
وقد تم تحليل منتجاتهم وتصنيفها في سبع فئات حسب نوعية الرسم، حيث تنبئ المعلومات الواردة بأن الناس يبتكرون منتجات جمالية يفهمها الآخرون بطرق مختلفة (ضمن الفئات السبع).
ثم أن ماتشوتكا لم يتوقف عند هذا الحد بل أجرى مقابلات نفسية ديناميكية حولت الدراسة إلى منحى آخر حول الشخصية، حيث أن كل فصل من فصول الفئات السبع يحوي جزء أسماه "الديناميكيات النفسية لهذه الفئة" ، وفسر هنا ماتشوتكا العلاقة بين المنتج والشخص، حيث يرينا كيف أن نوع معين من الشخصية ينتج نوع معين من الأعمال الفنية.
الإبداع في الفنون يخبرك الكثير عن الشخصية
عندما جمع ماتشوتكا الأعمال الفنية التي انتجها من طبق عليهم دراسته، بالإضافة لتحليل دقيق لملاحظاته ونتائجه، أتضح جلياً كيف أنه ربط بين شخصية الإنسان وما يبدعه من أعمال، ومعالجة المنتجات من خلال المعايرة وتحليل العوامل والفئات والتقنيات الأخرى.
هل الرسم مضيعة للوقت والإبداع؟
كان الفنان العالمي "بابلو بيكاسو "1881 ولازال علامة فارقة في عالم الرسم، ومن أكثر الشخصيات تأثيراً في عالم الفن بشكل عام، ومن طريف ما يروى عن قصته، أنه بدأ يرسم في صغره قبل أن يبدأ الكلام! مما جعل معلميه يتنبؤون بعبقريته.
وحالياً، قد يظلم بعض المعلمين الطلاب الذين تظهر مهاراتهم الفنية من الرسم والتركيب، قبل مهاراتهم الأساسية كالحفظ والقراءة والتذكر، ويجعلهم يضعون طلابهم في مأزق يضطر هؤلاء الطلاب لمجاراة زملائهم، لئلا يُنظر لهم بدونية.
وخارج المدرسة، ربما الوالدان أو الأهل، يضايقهم عدم وجود مهارات حسابية وعلمية في الطفل، واتجاهه نحو الرسم، والتركيب، وتنسيق وتزيين الأشكال، متغافلين في الوقت ذاته، قراءة ما ينتجه من أعمال فنية، ربما فيها دلالات واضحة، على شخصيته الإبداعية، كالقدرة على التصنيف، والربط، والتنسيق، والإدراك للعلاقات الغير ظاهرة بين الأشياء.
أن توظيف الرسم مثلاً كعنصر فني في التربية، وصقل الشخصية موضوع مهم، طالما أنه مستمد من أساس علمي كما وضحت دراسة ماتشوتكا السابقة.
الرسم يكشف لك العالم، الرسم يكشف لك الشخصية!
إذا كانت الفنون هي نافذتنا للعالم، نتعرف على مواطن الجمال والحضارة، فإن الفنون أيضاً تكشف لك الشخصية.
كيف؟
كان "ليوناردو دافنشي 1452" الرسام العبقري يقول: "لا انفصال بين العلم والفن"، وكان يحذر دائماً من الفنانين أو من يهتم بالرسم دون الاهتمام بدراسة العلوم، وشبههم على حد قوله بـ" قبطان السفينة العائمة في البحر، إنما لا بوصلة فيها ولا مجاديف، مما يجعله عاجزاً عن الوصول إلى المرفأ الذي يريد".
إنك حين تحلل أي عمل تعمله بلمسة فنية فهذا يخبرك الكثير، والجيد في الأمر أنه قابل للتطوير، لنقل مثلاً أنك برعت في صنع شكل جمالي من بقايا أدوات لديك، مع الاستعانة ببعض عناصر البيئة كورق الشجر أو الريش، هذه نتيجة فنية، النتيجة العلمية لذلك أن لديك قدرة وذكاء بيئي يمكنك من دراسة العلوم الطبيعية، وأن لديك حساً رقابياً وتأملياً يجعلك تستخرج أفضل ما في الأشياء ولو كانت في نظر الآخرين عبارة عن "مخلفات" تستحق الرمي وبلا فائدة.
لنأخذ مثالاً آخر، من يكون ذا خط يدوي جميل، ولنفترض أنه طالب مثلاً، فهو برغم وجود برامج مخصصة للخطوط، فهو يستمتع بإضافة لمسات أخرى تطور من موهبته في الخط، وهذا يعطي معلمه مثلاً أو والديه مؤشراً على دقته، واهتمامه بالتفاصيل، ونظرته للجانب الحسن من الأشياء.
الفنون والعمل، التكامل لا التناقض
ندرك جميعاً جانبي الدماغ الأيمن الخاص بالخيال والعواطف، والأيسر الخاص بالمنطق والذاكرة.
وغالباً ما نشعر نتيجة هذه المعلومة أن أصحاب الجانب الأيمن من الدماغ فنانون لايرتبطون بالوقت، ولا يحبون القيود، ولا ينتجون كما ينتج ذوي الدماغ الأيسر، الذي يبرعون بالتخطيط والتنفيذ، وفهم الأمور المنطقية بمعزل عن العاطفة أو الخيال المحض.
هذا الأمر في ظاهره بديهي، لكنه يضمر مؤشراً غير صحيح وشائع، وهنا دورنا بمزيد من المعرفة والتعلم أن نلغي مثل هذه الأفكار الخاطئة السائدة..
فهناك عالم يدعى نيد هيرمان 1978، وهو مؤسس لمؤسسة الدماغ الكلي، وصاحب أبحاث علمية فنية، قام بدارسة مثيرة للاهتمام.
جاء بمجموعتين، مجموع الدماغ الأيمن "مفكرون، فنانون" ومجموعة الدماغ الأيسر "علماء وتنفيذيون" وأعطاهم موضوعاً للتباحث فيه وكتابة تقرير وكانت النتيجة كالتالي:
مجموعة الدماغ الأيمن: عمل مهلهل غير مترابط، مليء وغارق بالفلسفة والأفكار الغير مرتبطة بالموضوع الأساسي.
مجموعة الدماغ الأيسر: تقرير جاد وبلا أخطاء ولكنه ممل وبلا أي لمسة مبدعة أو جذابة.
ثم قام بعد ذلك بخلط المجموعتين، وتعيين قائد يوجهها، وأعطاهم موضوعاً جديداً، وبعد مدة قصيرة، خرج تقرير جديد متكامل، يحتوي الرؤية والتفاصيل وبلمسات فنية إبداعية، وبلا أخطاء، ومنطقي.
وهنا أثبت نيد هيرمان، كيف أن الدماغ البشري يعمل متى ما غذي بطريقة صحيحة، حيث أن كل إنسان لديه كامل الجانبين، لكن نتيجة ظروف وراثية وبيئية قد ينشط جانب أكثر من الآخر، لكن متى ما تلقى الدماغ تأسيساً ومعلومات صحيحة، فإن كلا الجانبين سيعمل كما عمل فريق هيرمان، في إنتاج عمل متكامل، بلا أخطاء، وبلمسة مبدعة.
الموازنة
يقول "بيكاسو1881" الرسام الشهير: " الفنون تمسح غبار الحياة"
وهذا ما يجب أن تكون عليه نظرتنا، فليست بالفنية المتطرفة للفوضى والخيال، ولا الجادة الباعثة على الملل، بل الموازنة التي تمسح عن الذهن والجسد التعب، وتطلق الإبداع والتميز والتطور الكامن في دواخلنا.