إذا كنت تتحدث مع أحدهم، ووجدت أن الحديث الذي كان شيقاً قد أخذ منحنيات كثيرة، وذهب شرقاً وغربا، ثم يطرأ أمر ما، ويسكت كلاكما أو أحدكما.. فتلتفت له أو يلتفت لك وتسأل: " أين كنا"؟
وما أن يبدأ الحديث مجدداً، حتى تبديان استغرابا كيف أنكما كنتما تتحدثان عن زحمة الطريق، أو حالة الجو، فكيف أصبحتما تتكلمان غاندي، ودعوته السلمية لوقف الكراهية والقتل والاستعمار، واستبدالها بالمحبة والسلام..!
إذا مررت بهذا الحالة، -وما أكثرها!- فلابدّ أنك تساءلت من أين تأتيني الأفكار؟
هل هناك من فجوة في الدماغ، أو بقعة؟
هل هناك حالة شعورية لا مرئية، أم نشاط في خلايا معينة؟
كيف يعمل دماغنا؟
هذه التلافيف المعقدة، التي نحملها فوق أكتافنا، تخبرنا ماذا نقول، وما نفعل، تحلل ما نسمعه، وتذكرنا بما نسيناه، هي الدماغ، الذي يطلق عليه: مخ، دماغ، عقل، وفي حالات شعورية: ذهن.
إن هذه الآلة الجبارة، التي أبدعها الخالق وأودعها رؤوسنا، هي أكثر الأجزاء تعقيداً وغموضاً في أجسادنا، تحوي حوالي من 300 إلى 500 جرام من النسيج، ومليارات الخلايا العصبية، وعشرات الألوف من الخلايا الدقيقة الرقيقة، التي تنقل الشارات من وإلى.
يتحدث الدماغ بلغة الشارات والنبضات الكهربائية، والتركيبات الكيميائية، ويعمل بلا كلل للإشراف على عمل الجسم وإشاراته القادمة من الخارج، فيترجمها، ثم إنه يخزن المعلومات بطريقة دقيقة إعجازية، ثم أنه بعد ذلك يعطينا القدرة على التفكير، والتحديد، واتخاذ القرار.. ومن ثم الشعور، الشعور بذا وذاك من شتى المشاعر، التي لا نملك أمامها إلا الانقياد والانصياع.
يتكون دماغنا من ثلاثة مكونات رئيسية: عنق الدماغ الممتد من الحبل الشوكي، ويحوي المراكز العصبية الهامة، ثم المخيخ المسؤول عن التنسيق، ينسق حركاتنا اللاإرادية، ويقيم توازننا ويرسل ويستقبل تحركاتنا، ثم هناك الجزء الضخم والأكبر، وهو الدماغ الذي يتكون من فصين، مسؤول كل منهما عن كمية هائلة من الإدراك والمشاعر والتوقيت، وهي مايميز الإنسان عن غيره من المخلوقات.
لذا فإن هذه الآلة الضخمة، ليست عبارة عن ميكانيكية معينة للتخزين والإرسال، إنما أيضاً بيئة خصبة لدوران الأفكار، وتكوين الشعور، وبناء النظريات، وتنسيق الرؤى.
عملية التفكير
إن الفكرة التي تدور في دماغك، هي إشارة كهربائية، يمكن قياسها وقياس تأثيرها، وأين ستذهب ومن أين جاءت، لذا ففيزيائيا يمكننا قياس الأفكار، وقياس الذهن تبعاً لذلك..
لكن..
هل يمكننا قياس الوعي؟
لنفترض جدلاً.. أننا نعامل أفكارنا معاملة خلايانا العصبية، التي عندما تتأذى فهي تتوهج أو تتكهرب، وتنتج إشارة معينة للدماغ عبر الحبل الشوكي ونتصرف بناء على ذلك.
لكن أفكارنا تأتي بشكل معاكس، إنها تأتي من دماغنا وتعطي لأجسادنا الإشارة بالتحرك والقرار، وهذا يسهل المهمة أكثر.
فحين ندرك أن التفكير هو عملية نملكها نحن، ونستطيع تحديدها وتحديد مسارها وكيف تبدأ وتنتهي.. فهذا يجعل من فرضية قياس الوعي، فرضية قائمة وواقعية وقابلة للتطبيق، أكثر من كونها خاطرة أخرى، تطوف في الدماغ وتنتهي إلى لا شيء..!
كيف أغذي أفكاري؟
حين عرفت كيف يعمل دماغك، وعرفت أن التفكير عملية يمكن قياسها والتحكم بها، فكيف السبيل إلى تفعيل ذلك؟
اسأل نفسك، بهدوء، مستعينا بورقة وقلم، أو بذاكرتك لتقويتها الأسئلة التالية:
• هل أتوقف عن التفكير عندما أبدأ بكتابة أفكاري وتدوينها؟
• عندما أواجه مشكلة ما، فهل أنا أفضل حلها ثم التفرغ لتفاصيل أخرى؟ أم ابدأ بالتفاصيل الصغيرة وأؤجل مواجهة المشكلة؟
• عندما أحاول إنهاء مهمة في يدي، فإنني استغرق فيها بغض النظر عن أي مستجد يطرأ؟ أم أنني اترك أي مهمة في يدي مهما كانت مهمة وابدأ بالمستجد؟
• أقر باتباعي لكل الطرق للوصول لأهدافي.
• عندما أرغب باتخاذ قرار فأنا أجمع معلومات حول قراري، أم أنني أتبع حدسي؟ أم أفضل أن يشاركني أحد في القرار؟
• عندما يكون لدي عدد كبير من المهام التي تحتاج للإنجاز، فأنا أرتبها عادة حسب الأهمية، فأبدأ بالأهم فالمهم وهكذا..؟ أم أنني أختار واحدة فقط لأدائها..؟
• لا يمكنني عمل عدة مهام في وقت واحد، أم أنني يمكن أن أفعل ذلك، فأنا بسهولة أتنقل من عمل لآخر ولو لم ينتهي الأول..؟
هذا النوع من الأسئلة، إذا كتبتها في قائمة، أو أجبت عليها بصدق وشفافية، فهي لا تعتبر مقياس علمي دقيق، هي أداة عقلية تجعلك تقف بصدق مع طريقة عمل دماغك، ومعرفة نفسك، كيف تفكر، كيف تدرك، وكيف تقرر، وتتصرف بناء على ذلك.
إذا تجاوز هذه المرحلة، وبدأت بمعرفة طريقة عمل أفكارك، فأنت الآن في مرحلة التغذية، إيقاد هذا الدماغ وجعله كالمحرك الذي لا يهدأ، حتى تصل لمرحلة تندهش أنت ذاتك، كيف أن دماغك يفاجئك بأفكاره.. بعطاءه.. وبقدرته على ابتكار الحلول.. والإتيان بجديد الأفكار.
أفكار لتغذية الأفكار !
- كن فضولياً! اسأل، تعلّم، لا تخجل من قلة معرفتك في أمر ما، نحن نندهش حين نرى أطفالاً صغاراً يتعلمون في وقت وجيز استخدام أجهزة تكنولوجية تبدو معقدة لنا، الأطفال لا يخجلون من أنهم لا يعرفون، هم يجازفون من أجل التعلم، فكن مثلهم !
- تعلّم من أخطاءك! إذا أقدمت على أي تصرف ولم توفق، أو تجربة لم تنجح، أو مقولة ندمت عليها، تعلم من ذلك وضعها خلفك وامضي، تخلى عن القيود القديمة والأحكام المسبقة، والتحفظ والعناد وغيرها من السلبيات التي تجعل من اعترافك بالخطأ مهمة صعبة، أخطئ، تعلم.. ثم امضي.
- أطلق حواسك! لديك حواس خمس موصولة بدماغك بطريقة مذهلة، يخبرك أنفك عن روائح المكان فيثير الذكريات، تخبرك يدك عن الملمس فيشتعل خيالك، يخبرك التذوق عن الدهشة والمتعة، ترى عينك كيف أن الأفق واسع، وأن الناس تختلف، خذ كل هذا، وتغذى عليه.
- شكّك وتساءل ! لا تأخذ الأشياء من حولك كمسلمات، افحص، دقق، اسأل عمّا وراء الأشياء، لماذا تعمل الأشياء وكيف تعمل، لماذا نقول ولماذا تكون ردة فعلنا هكذا..؟ التساؤل يعطيك الإجابات، والإجابات تغذيك أكثر فأكثر.
- تذوق الفنون والعلوم! أقبل على الجديد، وابحث وابحر في القديم، انغمس في جمال الفنون، وخذ عقلك في رحلة علمية، اكشف لنفسك الأسرار، وتحدى نفسك أن ستتعلم كل يوم شيئاً جديداً وستعرف عنه الكثير.
- تكامل وتماهى مع ماحولك! أنت جزء من كل، واحد في جماعة، كائن في كوكب، جمال الحياة في الاختلاط بالآخرين، الاختلاط حتى بالجماد والنبات والحيوان، الاختلاط بالثقافات والبشر، أخذ الجيد وترك السيء، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها.
- اربط أفكارك ببعضها! أنت تعرف دماغك الآن، وتعرف كيف تفكر، رتبه، اربط هذا بذاك، اخلق لنفسك فكراً ورؤية وقيماً وأساساً ونظراً في كل شيء مما حولك، صنّف ورتب واربط الأشياء، لأنك إن احتجت لشيء ما، ستجده بسهولة، بلا فوضى ولا غموض.
وظّف أفكارك!
أفكارك الآن ملكك، وظّفها كما تشاء، استشعر كيف أنها ثروة هائلة، لا يساويها مال ولا قيمة مادية، إنها خليط ومزيج هائل من الجمال والخير والحق والأصالة والغرابة والطرافة والإبداع.. فوظفها فيما عرفته عن نفسك من إمكانيات، ولا تبخل على نفسك، وتحد أو تكبح من أفكارك.
بنات الأفكار !
تسمي العرب الخواطر "بنات الأفكار" لتجعلها قريبة ممن يفكر فيها، ويشعر بانتمائها وولائها، لذا لا تهمل بنياتك! واحفظها جيداً، فهذه الأفكار في كل يوم تنمو، لتصبح أفعالاً، لتصبح واقعاً، لتصبح حياة... لتصبح أنت !