عندما نريد الاستشهاد بنهضة أمة ما، فغالباً ما تتجه أنظارنا إلى اليابان، التي نهضت من بعد قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، اللتين ألقيتا عليها مؤذنتين بنهاية الحرب العالمية الثانية. والاستشهاد يشير إلى ما أحدثته اليابان من نهضة عظيمة، وغزوها أسواق  العالم بالمنتجات، وتفوقها  في الجانب التقني، وتأسيس ثالث أكبر اقتصاد في العالم.

غالباً ما نستشهد بالنهضة من بعد الدمار، ولكن كثيراً ما نتناسى أن اليابان لم تولد من بعد الحرب العالمية الثانية، فالقنبلتان أودتا مباشرة بحياة ٢٢٠ ألف ياباني، ولكنها لم تدمِّر كل اليابان التي كانت تعيش نهضة صناعية كبيرة، منذ إرسالياتها العلمية المبكرة إلى دول الشرق والغرب، لتلقي العلوم بنيّة تقليد ونسخ المخترعات، كخطوة أولى حتى يتم توطين هذه الصناعات، وتأسيس أجيال تتعاطى مع التكنولوجيا، وتتأقلم مع أخلاقيات الصناعة ومتطلباتها، ومن ثم تنطلق في درب الإنتاج والإبداع العلمي والتقني.
 

صحيح أن اليابان استفادت من النظريات الأمريكية، الخاصة بالجودة والجودة الشاملة، التي لم تكن لها محل في أمريكا نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، وطبقتها وبرعت فيها، وربما يكمن السر هنا في الالتزام الكبير الذي لا يلين في التطبيق، وتطوير هذه النظريات، ولكن كل هذا لم يكن ليعني أن اليابان بدأت فعلاً من الفر من بعد القنبلتين المدمّرتين.
 

في وطننا العربي غالباً ما نغفل عن هذه الحقيقة، ونبحث عن الطرق السريعة للتطور، من دون أن نمرّ بالخطوات التي مرّت بها الأمم التي ترجو النهوض والتقدم. ففي أحد المؤتمرات الخليجية من أجل بحث العلاقات وإمكانات الاستفادة من التجارب في الميادين المختلفة، كان السؤال الذي لم يملّ الخليجيون من تكراره هو: كيف يمكننا أن نصل إلى ما وصلتم إليه؟
 

ربما أراد السائلون وصفة سحرية، أو كبسولة صغيرة يبتلعونها ليلاً ليصبحوا في نهار اليوم التالي كاليابانيين، أو الكوريين الجنوبيين، أو السنغافوريين، وكل فترة نضيف إلى قائمة الدول الناهضة دولة ونبالغ في جلد ذواتنا: لماذا صحت تلك الأمة، ونفضت عنها غبار النوم والكسل، ونحن لا نزال نراوح مكاننا؟
 

ذلك لأننا غالباً ننظر إلى نصف الحكاية، ونرّكز على النصف الأخير منها، على النتائج والنهايات السعيدة، ونشيح عن البدايات والأسباب التي أدت إلى هذه النتائج. فاليابان حاولت أن تنسخ في القرن التاسع عشر، التجربة المصرية التي قادها محمد علي باشا، الذي حكم مصر ما بين ١٨٠٥-١٨٤٨، في إرسال البعثات إلى الدول المتقدمة، والفرق أن الرؤية كانت واضحة تماماً لدى القادة اليابانيين، لتطوير واقعهم والانتقال من مجتمع بدائي بسيط إلى مجتمع صناعي متقدم، مع الحفاظ - ما أمكن - على الخصوصيات الثقافية والدينية لبلدهم، وهذا ما أعطى تلك الدول «نكهتها» الخاصة، في السير المتوازي بين الحداثة الصناعية، والتمسك المرن بما ورثوه عن السابقين.
 

العزم والتعليم ووضوح الرؤية والإيمان بما يمكن أن تقدِّمه الأمة، حينما يسود فيها العدل والحق والمساواة، وعدم السماح لأي من المتغيرات أن تحرفها عن السير نحو أهدافها المرسومة، وإشاعة هذا الإيمان بين الناس وتطبيقاتها الواضحة وتلمس نتائجه، ربما تكون المفاتيح الأولى التي نقرأها في التجربة اليابانية، وهي أيضاً ما يمكن قراءته من تجربة مؤسس سنغافورة الحديثة، رئيس وزرائها السابق العتيد لي كوان يو، تبقى من ضمن العلامات الفارقة بين أمة تنفِّذ ما تحلم به، وأمة تكتفي بأحلام اليقظة