لقد قيل: "إذا استطعت أن تمزج الزيت والماء جيداً فإنك ستستطيع أن تجعل مبدعاً ما يمارس إبداعه في بيئة تنظيمية بحتة!"
هذه حقيقة وليست تعجيزاً فقد أكدها ليهر (Lehr) بقوله: " الإدارة والابتكار ليس من السهل أن يجتمعا معاً."
لقد كشفت الدراسات أن المنظمات ذات النمط البيروقراطي غير ملائمة وغير فعالة في البيئة الديناميكية التي تتنافس على أساس الابتكار، حيث أن الهرمية والقواعد المقيدة والإجراءات المطولة تعيق تدفق الجهد الابتكاري وتعمل على إبقاء الحالة القائمة واستمرارها.
إن من الأمور المسلم بها أن الأوامر تقلل الفوضى، وتعد سبباً لإنجاز بعض المهام المعتادة، ولكن في المقابل؛ فإن التفكير الإبداعي الجاد يتطلب قدراً كبيراً من الحرية، فهو يمثل التغير مقابل الاستقرار، والتفكير خارج الصندوق التنظيمي، ولهذا كلما كانت القيود أقل وكانت البيئة أكثر ديناميكية ومرونة كلما كان أفضل. ولكن مثل هذه الطبيعة البيئية عادةً ما تهاجم من قبل المدراء ويطلق عليها البيئة الفوضوية. ذلك لأن المدراء يميلون إلى الخطط والأوامر، ويُقيِّمون جودة أدائهم بكم الأوامر التي يصدرونها، لذا فهم غالباً ما يتصادمون مع المفكرين المبدعين الذين يرفضون الغرف المغلقة والتسلسلات الهرمية الطويلة ويفكرون خارج السور أو كما هو دارج خارج الصندوق، ولا لوم عليهم فالابتكار والإبداع عمليات غير تنظيمية تأتي لحظة إلهام دون تخطيط أو موعد مسبق.
وبالتدقيق فيما سبق سنصل إلى حقائق ثلاث؛ لا نجاح دون تنظيم، ولا ريادة دون إبداع ولا إبداع دون فوضى، الأمر الذي يجعلنا أمام معادلة معقدة تحتاج إلى حلول؛ فالمنظمة لن تتطور دون مفكرين مبدعين، ودون تفكير إبداعي لن يكون هناك ابتكاراً، والمفكرين المبدعين لا يستطيعون الانسجام في بيئة مرسومة طرقها تملأها الإشارات الإرشادية.
تحقيق التوازن الجيد مطلب!
هناك طريقتين لحل هذه الإشكالية وليس بينهم تنافر متبادل. وتقوم الطريقة الأولى على تقسيم المنظمة الواحدة إلى أقسام منفصلة، وتخصيص أحد هذه الأقسام بالبحث والتطوير أو ما يسمى بصناعة الإبداع، بحيث تتفاعل وتتكامل هذه الأقسام مع بعضها البعض. وهذا هو ما يعمل به في معظم الشركات الكبيرة حيث يكون لديهم مؤسساتهم البحثية الخاصة مثل معامل الأبحاث الوطنية والجامعات، ولكن لا بد من التنويه هنا أن الاتصال الجيد بين الأقسام البحثية مع غيرها من الأقسام هو ضرورة حتمية حتى يحدث التكامل المطلوب بين إدارات صناعة الإبداع- المؤسسات البحثية- وبين إدارات الإنتاج.
أما الطريقة الثانية فهي تحويل إستراتيجية المنظمة بالكامل لتكون قائمة على الابتكار وهي (الإستراتيجية الاستباقية)، وذلك بجعل الابتكار مصدراً لميزتها التنافسية في السوق وأحد أبعاد أدائها الاستراتيجي، بحيث تحتوي وتدير الإبداع بدلاً من التخلي عنه أو قتله ببيروقراطية الأنظمة. إذا نجح مثل هذا التحول فإن هذه المنظمة ستشكل بيئة خصبة للمفكرين المبدعين.
إضافةً إلى تلك الحلول فإن هناك عوامل تنظيمية أخرى من شأنها التأثير على العملية الابتكارية بطريقة لا تقتلها، ومنها ما يلي:
1- القيادة وأسلوب الإدارة
تلعب القيادة دوراً فعالاً في تحفيز أو إدارة الابتكار، فالقيادات الابتكارية هي التي تشيع أجواء الابتكار وتوجد الحوافز من أجل التغيير في الهياكل والسياسات وهو ما يسمى بـ (الابتكار التنظيمي)، والمنتجات (الابتكار الفني)، وأساليب العمل في السوق (ابتكار تسويقي)..وغيرها.
ويتسم نمط هذا النوع من القيادة بالديموقراطية، والتفويض، والمرونة، والتحرر، والميل إلى فرق العمل والوحدات المستقلة الأكثر ملائمة للابتكار.
2- الفريق
لقد أصبحت الشركات تشجع توظيف الفرق المدارة ذاتياً، وذلك تجنباً لمعضلة التخصص الذي من الممكن أن يجعل من الأقسام المتفرقة كجزر منعزلة مما يفقد المنظمة روح التكامل والتعاون والحيوية، في مقابل ذلك فإن الفرق تمثل المناخ الأكثر ملائمة من أجل تعزيز ودعم الابتكار.
3- ثقافة المنظمة
تمثل ثقافة المنظمة مجموعة القيم والمفاهيم والطقوس التي تؤمن بها، وحيث أن الظروف تتغير فلا بد أن تكون ثقافة المنظمة أيضاً مرنة وقابلة للتغيير. لذا فإن المنظمات القائمة على الابتكار والتي يفترض أن يكون لديها قدرة عالية في ابتكار العملية والمنتج تتسم بشكل عام بقدرتها العالية على الابتكار الثقافي الذي يُدخِل تغييرات مهمة على الهياكل والسياسات والمفاهيم والإجراءات.
دعوة نحو فوضى منظمة!
صاغ المدير السابق في شركة "فيزا" مصطلحاً جديداً محاولاً أن يصف بها جوهر المؤسسة المرنة الحديثة، هذا المصطلح هو"الفوضى المنظمة" (Chaordic) وقال عن هذا المصطلح: "لقد أخذت الجزء الأول من كلمتي الفوضى chaosوالنظام order وكونت منهما كلمة واحدة فظهرت كلمة Chaord وتعني الفوضى المنظمة." ويعني بهذا المصطلح أي تنظيم أو منظمة أو مجتمع ذاتي التنظيم وذاتي السيطرة وقادر على التكيف ولا يسير في خط مستقيم. وسواء كان نظاماً مادياً أو بيولوجياً أو اجتماعياً فإن سلوكه يجمع بشكل متوازن ومنسق بين خصائص الفوضى والنظام، وحيث أنه من الصعب أن يترجم مثل هذا النظام بدقة إلى منظمة تجارية إلا أننا يمكن أن نفكر فيه كمنظمة تخلط بشكل متناسق ومنسجم بين خصائص المنافسة والتعاون
وقطعاً لم يبقى للتذكير سوى أن نقول أن المنظمات الابتكاريه لا تحدث صدفة، بل هي المنتج النهائي للقيادة والإدارة الجيدة، وجوهرها يكمن في الموازنة الصحيحة بين الحرية والتنظيم، وبين هيكلة الأجزاء والتكامل العام.