لا يوجد هناك فرد نستطيع أن نضبط عقله بنظام أوتوماتيكي ليكون إيجابياً أكثر فيبتسم حين تحدث مصيبة، ويضحك حين يفشل في مشروع، ذلك لأن الإيجابية ليست مجرد عبارة براقة ووجه مبتسم وموقف بارد تجاه كل مشاكل الحياة، بل هي أرقى من ذلك وأكثر عمقاً، فهي أسلوب تفكير وطريقة حياة، وفلسفة تأمُّل، لا يصل إليها أحد إلا بالإقناع والتدريب والممارسة.
وعليه فإن ما اعتدنا أن نسمعه من عبارات مثل؛ "فكر بإيجابية" و"انظر إلى الجانب المشرق"، "وانظر إلى النصف الممتلئ من الكأس"، كلها عبارات لن تؤثر ما لم تلمس إيماناً داخلياً، وتحرك رغبة قوية في تحويل المحنة إلى منحة والبحث عن حل والسعي إلى مخرج، وليس نسيان الألم وتجاهل المشكلة.
مالذي سيحدث لو لم تكن إيجابياً؟
لقد كشف الباحثون من الجمعية النفسية الأمريكيةAmerican Psychological Association (APA) أن التفكير يلعب دوراً كبيراً في تقدم المرء في السن، وقالوا بأن هناك رابط بين المشاعر الإيجابية وبين ظهور أعراض الشيخوخة، وكانت هذه أول دراسة للكشف عن مظاهر الشيخوخة والدور الوقائي للتفكير الإيجابي، وانتهت الدراسة إلى أن من اتسم بالإيجابية في التفكير كان أقل عرضة للشيخوخة في وقت مبكر.
من جهة أخرى، كشفت دراسة أمريكية حديثة أن النساء المتفائلات بطبعهن أقل عرضة للإصابة بأمراض القلب أو الوفاة مبكراً. وتعكس هذه النتائج ما توصلت إليه دراسة قام بها فريق هولندي بأن تفاؤل الرجل يقلص خطر إصابته بأمراض القلب، وأحد التفسيرات هو أن الشخص المتفائل أقدر على التكيف مع مصاعب الحياة، وربما يكون أكثر حرصاً على الاعتناء بنفسه حينما يمرض.
وبالمقارنة، تقول الدراسة أن النساء اللواتي يحملن مشاعر عدائية إزاء الآخرين، أو لا يثقن عموما بأنفسهن تزيد احتمالية وفاتهن بنسبة 16% خلال نفس الفترة الزمنية. ووجدت الدراسة أن المتفائلات يحرصن على ممارسة التدريبات الرياضية وأجسامهن أنحف من غير المتفائلات.
التفاؤل مطلب شرعي روحي
يمثل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "وتفاءلوا بالخير تجدوه" دعوة واضحة وقوية إلى التفاؤل وربطه مباشرة بتحقيق المراد، فمن أراد أن يحقق هدفاً فليتفاءل وليحسن الظن بالله. وكذلك كما جاء في الحديث القدسي عن الله عز وجل أنه يقول: "أنا عند ظن عبدي بي"، لذا، فبقدر إيمان الفرد بهذه الحقيقة وهذا الوعد الرباني، بقدر ما سيعيش براحة وطمأنينة وثقة بفضل الله وعطائه ورحمته، مثل هذه الراحة سيترتب عليها بلا شك، زيادة قدرة الفرد على العطاء الأكثر والإنجاز الأفضل، وحياةً أكثر هناءً وسعادة.
اعقلها وتوكل!
قد يفسر البعض الدعوة إلى الإيجابية والثقة، بأنها خمول وتقاعس، ويتعامل معها من منطلق هذا المنظور "سأتفاءل وسيتحقق ما أريد ولو لم أعمل"، لذلك فإنه من المهم جداً التأكيد على أن قضية التفاؤل والإيجابية تأتي دائما مقرونة بالسعي، أي "قدِّم واعمل وأعطِ وتفاءل بالنتائج"، فإن جاءت كما تريد فهو خير من الله ونعمة وفضل، وإن لم تكن كما تريد فهنا تتأكد أهمية الصبر والثقة بأن في مشيئة الله حكمه، الأمر الذي يربط الإيجابية في تقبل المحن وتحويلها إلى تجارب ناجحة ومثمرة. ويكفينا في الحديث الذي رواه الترمذي عن رسول الله هادياً ومرشداً وسبيلاً، حيث جاء في الحديث أن رجلاً قال للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل ؟" قال: "بل اعقلها وتوكل"، وهنا دعوة إلى العمل ومن ثم التوكل والثقة بالله.
كيف تكون إيجابياً؟
كما أشرنا سابقاً، لا يمكن أن يكون الشخص إيجابياً بضغطة زر، فالإيجابية أسلوب بحاجة إلى أن يتبناه الشخص ويؤمن بدوره ويثق بفاعليته. وهناك عدة طرق من شأنها أن تساعد الفرد في تدريب روحه على التفاؤل وحسن الظن بالله، ومن أهم هذه الطرق هي أن تتعرف على الإيجابية بمفهومها الحقيقي وأن تقرأ عن تأثيراتها في حياة الفرد، ومن ثم حاول أن تؤمن بذلك. راقب أفكارك استخدم المفردات والجمل التي تعبر عن التفاؤل والإيمان، وحاول أن تبتسم كثيراً فمن شأن الابتسامة أن تساعدك على التفكير بإيجابية.
تجاهل الرغبة في الانسحاب أو الشعور بالمشاعر المحبطة، وبقدر تجاهلك بقدر ما ستلاحظ تحولاً في أسلوب تفكيرك وتغيُّراً في حياتك. وتأكد أنه من الطبيعي أن تشعر في بعض الأيام بإحباط أو سوء، ولكن عليك بملاحظة ذلك ومحاولة التغلب عليه ومقاومة أي فكرة سلبية واستبدالها بإيجابية، ولتجعل النظر إلى أوجه الخير ديدنك في الحياة.
بغض النظر عن الظروف، أنت فقط فكّر بإيجابية وتوقّع أفضل النتائج، وستتغير الظروف في النهاية، قد لا تحدث التغيرات بسرعة، ولكنها حتما ستحدث إذا آمنت بذلك.
كيف تنشئ طفلاً إيجابياً؟
لقد أدرك العلماء قوة العقل منذ قرون طويلة، وأدركوا أن الأفكار لها من القدرة أن تقودنا نحو المجد أو تنزل بنا إلى الحضيض، ولهذا فإن أحد أهم أبجديات الحياة التي لا بد من أن نُعَلِّمها لأطفالنا هي كيفية التعامل مع هذه القوة العظيمة التي يملكونها (أي قوة العقل).
تأكد أن أطفالك يراقبونك جيداً، لذا حاول دائماً أن تجعل أفكارك وكلماتك إيجابية وعبر عن ذلك بوضوح، وكن لطيفاً وإيجابياً مع جميع أفراد عائلتك وأصدقائك. أنجز عملك بحماس وحاول أن تقوم بحل أي مشكلة تواجهك دون أن تتذمر كثيراً. تحدث بلغة الأمل واليقين، وكرِّر دائماً"أستطيع أن أقوم بـ". ابتسم مع أطفالك واضحك معهم واسمح لهم بأن يضحكوا معك.
دائماً ابحث عن الإيجابيات في أي شخص تقابله، ودع أطفالك يدركون كم هم رائعين وكم أن وجودهم جميل في حياتك. راقب عباراتك التصحيحية وقل "الكرسي للجلوس" بدلاً من أن تقول " لا تقف على ذلك الكرسي". والأهم من ذلك كن قدوةً لأولادك في الاحترام والإخلاص.
الأطفال قبل المدرسة
ليس لدى الطفل في بداية حياته ما يقلقه أو يشغله أو يفقده الثقة في نفسه، ولكنه في نفس الوقت يُعدُّ أرضاً خصبة لتقبل كل ما تفرزه الأحداث والعلاقات من حوله، حيث يترجمها إلى معاني وأخلاقيات يتمثلها ويسير على نهجها وسلوك يعمل على تقليده باستمرار، لذا يتأكد دور ولي الأمر في إشعار طفله بالأمان ومساعدته ليكون إيجابياً. ويستطيع ولي الأمر القيام ببعض الممارسات التي قد تعزز المشاعر الايجابية عند الطفل، مثل الغناء للطفل والتحدث معه بصوت هادئ وإيجابي، وإشعاره بقيمته وأهميته، فكل هذا من شأنه أن يجعل من الطفل إيجابياً وواثقاً وسعيداً.
وكلما كبر هذا الطفل، فإن على ولي الأمر أن يبدي إيمانه وثقته بقدرات ابنه في التعلم والقيام بمهام صعبة، وعليه أن يكرر على مسامعه: " تستطيع القيام بذلك" وأن يستبدل لغة الإجبار بلغة التحفيز والتشجيع والدعم.
الأطفال أثناء المدرسة
يعيش الأطفال في بداية دخولهم للمدرسة ما يسمى بالصدمة الثقافية، حيث يلتقون بأطفال آخرين وقد يكون بعضهم عدوانيين، لذلك فهم يحتاجون إلى المساعدة ليفهموا سبب هذا الاختلاف في طبائع الناس، ولماذا يعاملهم البعض بقسوة؟ وهذا يستدعي تشجيعهم ليبقوا إيجابيين وأن ينظروا إلى الآخرين بعطف.
في هذه المرحلة، كن إيجابياً واجعل لنفسك وعائلتك وقتاً تجتمعون فيه على طاولة العشاء دوماً ليتحدث كل فرد من أفراد العائلة عن أمور إيجابية حدثت له، وحاول دوماً أن تكشف لأطفالك عن الوجه الايجابي عندما يبدو الأمر سلبياً بالنسبة لهم، ولا تنكر كم هو سيء ما حدث لهم، ولكن حاول أن تعلمهم كيف ينظروا إلى مشاكلهم بوجهة نظر مختلفة. شجع أطفالك على التحدث عن أنفسهم بإيجابية، وعلمهم استخدام الكلمات الإيجابية التي تعزز ثقتهم بأنفسهم، مثل أن يقولوا قبل أن يخوضوا لعبة منافسة "أنا جاهز لهذه اللعبة"، وقبل أن يباشروا في عمل صعب "أنا سأعمل بجد لانجاز هذا العمل".
حين يكبر الأطفال بضع سنوات فإنهم يبدؤون في التمييز بين ما يُجِيدُون القيام به، وبين ما لا يستطيعون إجادته من المهام والمهارات، كما أنهم يبدؤون بمقارنة أنفسهم بالآخرين، لذا فإنه يبرز دورك كولي أمر في مساعدتهم كي ينظروا لأنفسهم بنظرة مختلفة وأن تشعرهم بتميزهم وروعتهم.
استمع لشكوكهم ومخاوفهم ولا تقلل من أهمية الموضوع، ولكن ساعدهم أن ينظروا للأمر من زاوية مختلفة. من الجميل لو علمّت أطفالك بأن ينظروا لتطورهم كعملية يتقدم فيها الفرد أحيانا ثلاث خطوات ويتراجع خطوة، فهذا سوف يساعدهم في عدم الشعور بالإحباط حين يتراجع مستواهم، ولكن لا بد أيضا من تحفيزهم وتشجيعهم على عدم الاستسلام.
قد يميل الأطفال في هذا العمر إلى أن يصبحوا مثاليين، لذا فإن الثناء على مستواهم وإقناعهم بأن كل شخص يخطئ ويصيب أثناء التعلم سوف يساعدهم على تقبل أنفسهم، وأخبرهم بان التعلُّم لا ينتهي أبداً، واضرب لهم أمثلة قريبة حدثت لك لتثبت أنك أنت أيضاً لا زلت تتعلم.
وأيضا؛ حاول أن توضح لأطفالك دائماً كيفية الربط بين الأفكار الإيجابية والكلمات الإيجابية، وأنها هي التي تصل بصاحبها إلى مخرجات ونتائج إيجابية. وأخبرهم؛ أن بمقدورهم التحكم بحياتهم من خلال أفكارهم، وأن أسلوب الحياة الإيجابي هو الخيار الأهم والممكن القيام به.