يتفق جميع البشر باختلاف ثقافاتهم وأطيافهم أن السعادة من أعضم النعم التي أوجدها الخالق في الكون، وهي نسبية عند الناس إذ تختلف من طبقة إلى أخرى، ولايمكن قياسها. وتعّرف السعادة بذلك الشعور الإيجابي الذي يغمر النفس و يُشعرها بالراحة والطمأنينة، ويعزز الثقة بداخلها ويمنحها طاقة إضافية من أجل تطوير الأفكار وإطلاقها دون قيود وتحويلها إلى أعمال إبداعية في جميع المجالات.
يعد الشعور بالسعادة مطلباً إنسانياً منذ بداية وجود البشرية على الأرض، لذلك اهتم الباحثون في معرفة أسباب تولد الشعور بالسعادة ومدى ارتباطها بالعوامل الخارجية المحيطة بالفرد بها ومدى تأثرها بمكنونات الفرد الداخلية، ورغم تباين التعريفات التي قدّمت في هذا المجال، يظل التعريف الشائع عند علماء النفس يتألف من ثلاثة مكونات أساسية هي: (إحساس ثابت نسبياً بالشعور الإيجابي، وغياب الشعور السلبي، ومستوى متوسط دائم بالاكتفاء الشخصي ).
لايمكن الحديث عن السعادة ورضا النفس، دون ذكر المفهوم التقريبي للسعادة في إطار الشريعة الإسلامية والتي ربطت السعادة بالأعمال الصالحة وطاعة الله، لقوله تعالى "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" سورة النحل آية97.
كذلك تدعو تعاليم ديننا الحنيف إلى مكارم الأخلاق وحسن المعاملة، والابتسامة في وجه المسلم، لما لها بالغ الأثر الإيجابي في نفوس البشر، حيث تنعكس إيجابياً على إنجازات الأفراد وتطوير أفكارهم، والشعور بالرضا الناتج عن السعادة الداخلية.
وتأسيساً على المفاهيم السابقة في تحديد مصطلح السعادة عند البشر، بحثت الدراسات الحديثة العلاقة بين تكوين الأفكار الخلاقة والشعور بالسعادة أثناء عملية الإبداع، سواء في الإبداع الفكري أو الإبداع العملي.
قد يكون علم النفس المجال الوحيد الذي يهتم بسلوكيات البشر ويغوص في مكنوناتهم الداخلية، لمحاولة الوقوف عند فهم أعماق النفس البشرية وتفاعلها مع العوالم الخارجية، فقد شهد العالم حركة نشطة باتجاه دراسة الشخصية خلال العقدين الماضيين، حيث انتقل مركز الاهتمام إلى تقييم المزايا الشخصية (الخصائص الشخصية) وعمليات التفكير المرتبطة بالسلوكيات البشرية، حيث أوضح أرجيل ,Argyle) (2001 أنه يمكن النظر إلى الخصائص الشخصية على أنها جوانب إدراكية للشخصية البشرية بحكم اتصالها بأنماط التفكير، ويمكن تعزيز الخصائص والمزايا الشخصية لبناء المشاعر الإيجابية التي بدورها تفجر الطاقات الإبداعية الكامنة داخل الإنسان.
قراءة في دراسة تامي سي بانيلز وآمي إف كلاكستون
تعد هذه الدراسة من أحدث البحوث المتخصصة التي رصدت العلاقة القائمة بين حالات الإبداع وتكوين الأفكار الخلاقة، والشعور بالسعادة، و مدى فعالية مراكز التحكم الداخلية والخارجية لدى الأفراد، وقد شملت الدراسة (182) فرد من طلبة الجامعة موزعين إلى (131) من الإناث و(50) من الذكور، وتتراوح الأعمار عند أفراد العينة بين 17 و52 سنة. وفيما يتعلق بالحالة الاجتماعية لأفراد العينة شكّل 78% منهم فئة غير المتزوجين و15,9% متزوجين، و4,5 مطلقين، أما بالنسبة للسكن، فإن ثلاثة بالمائة من عينة المشاركين يقيمون بمساكن الكلية بينما 66% يسكنون خارجها، وتستند الدراسة على ثلاثة فرضيات أساسية هي كالآتي:
الفرضية الأولى:
ارتباط السعادة بمركز التحكم الداخلي .
الفرضية الثانية:
ارتباط السعادة بعملية تكوين الأفكار الخلاقة وامتلاك مركز تحكم داخلي.
الفرضية الثالثة:
وجود علاقة إيجابية بين السعادة إجمالا وتكوين الأفكار الخلاقة .
المقاييس المستخدمة في الدراسة :
1. مقياس اكسفورد للسعادة ( أذكري اسم المقياس بالانجليزي والسنة ........) .
2. مقياس تكوين الأفكار ( اسم المقياس بالانجليزي ، والسنة .......)
3. مقياس مركز التحكم ( اسم المقياس بالانجليزي ، والسنة .......)
نتائج الدراسة:
أظهرت نتائج الدراسة عدة نقاط أساسية حول الشعور بالسعادة، وانعكاسها الإيجابي على تكوين الأفكار المبدعة، وأوضحت النقاط الأساسية التي ترتكز عليها عملية الإبداع ، وهي:
- توفر العناصر الإبتكارية.
- خصائص الشخصية المبدعة.
- حجم المعرفة حول تخصص معين.
كذلك تتطلب عملية الإبداع أشخاصاً يتقبلون الفوضى كواقع يومي، لكن في نفس الوقت يمتلكون القدرة على تجاوز وترتيب تلك الفوضى بالطريقة التي يرونها مناسبة، وإيجاد الحلول المبتكرة للمشاكل الناجمة عن تلك الفوضى، وأيضا يستمتعون بعملية البحث والتفكير بعيداً عن أي ضغوط خارجية ناتجة عن البيئة المحيطة من جهة، والضغوط الداخلية الناتجة عن التحكم الداخلي من جهة أخرى، هذا فيما يتعلق بجانب الشعور لدى المبدع، أما العمليات الإدراكية المصاحبة لإيجاد الحلول للمشاكل فهي تعتمد بشكل كبير على إدراك الشخص المبدع لحجم التحكم الشخصي.
إن الإدراك للتحكم الشخصي أو ما يعرف بمركز التحكم، يمكن تعريفه على أنه درجة تطور الشخص ويتوقع أن يكون سلوكه مرتبطا بتعزيزات داخلية أو خارجية، وأوضح روتر(Rotters,1966) أن الأشخاص الذين لديهم مركز تحكم داخلي يميلون للإعتقاد بأنهم يتحكمون في كل تصرفاتهم وسلوكياتهم ونتائج تلك التصرفات، أما الأشخاص الذين يمتلكون مركز تحكم خارجي يميلون للاعتقاد بأن كل مايجري حولهم تتحكم فيه الأقدار والعوامل الخارجية، وبالتالي ينظر إلى مراكز التحكم الداخلية والخارجية على أنهما طرفي نقيض.
وأوضح (Argyle,2001 & (Myers, 2002 أن هناك علاقة مباشرة بين مركز التحكم الداخلي والسعادة، كما توصلت العديد من الدراسات المتطورة إلى نقاط أساسية أخرى تلعب دوراً مهما في تحديد العلاقة بين السعادة ومركز التحكم، هي:
1. الخبرات الحياتية.
2. عمر الإنسان.
3. التطور الإدراكي.
هذا وبينت الدراسة أن العلاقة بين السعادة وتكوين الأفكار الخلاقة ومراكز التحكم الداخلية والخارجية علاقة معقدة، تختلف من مبدع إلى آخر، وهناك العديد من الدراسات التي جمعت بين الشعور بالسعادة وتوليد الأفكار من خلال مراكز التحكم، والتي بدورها تسهم في تعزيز أثر السعادة على درجة الإبداع.
أثبتت النتائج أنه ليست هناك علاقة قوية بين السعادة ومراكز التحكم الداخلية كما ورد في الفرضية الأولى، ولم تتوحد نتائج البحوث والدراسات السابقة حول ما إذا كان الأشخاص الذين لديهم مراكز تحكم داخلية يكونون أكثر سعادة بسبب الطريقة التي ينظرون بها إلى خبراتهم وتجاربهم. ويرى (Argyle, 2001) أن الأشخاص الذين لديهم مراكز تحكم داخلية يؤمنون بقدراتهم على السيطرة على الأحداث ومن ثم هم لا يكترثون.
كذلك أشارت الدراسة عدم صحة الفرضية الثانية والتي تقر بوجود علاقة بين الأفكار الخلاقة ومراكز التحكم الداخلية، بل على العكس، فقد أثبتت الدراسة وجود علاقة متينة بين تكوين الأفكار الخلاقة ومراكز التحكم الخارجية، وبالتالي هذه النتائج لاتنسجم مع ماتوصلت إليه البحوث السابقة والتي بحثت في موضوع الإبداع ومراكز التحكم. لذلك نجد نوع من التناقض في نتائج الدراسات المرتبطة بعملية تكوين الأفكار الخلاقة ومراكز التحكم، مثلا: " أشار (Chadha, 1989) إلى أن الأشخاص أصحاب مراكز التحكم الخارجية يحرزون درجات عالية فيما يتعلق بالإتقان، بعكس ذلك وجد كل من polen) Torrance,1978 أن الأشخاص الذين لديهم مراكز تحكم داخلية يحرزون نتائج جيدة بالنسبة للمرونة بينما ذوي مراكز التحكم الخارجية يبلون بلاء حسنا بالنسبة للطلاقة. وأوجدRichmond& De La) (serna,1980) أن الأشخاص الذين لديهم مراكز تحكم خارجية قد سجلوا علامات بارزة في كل المهام المتشعبة ".
وأثبتت الفرضية الثالثة أن هناك علاقة إيجابية بين تكوين الأفكار الخلاقة والشعور بالسعادة، وجاءت النتيجة هناك منسجمة مع نتائج الدراسات السابقة، والتي تناولت العلاقة بين السعادة وتكوين الأفكار الخلاقة. حيث أوضح كل من (Argyle,2001,Gasper, 2004 & Myers, 2002)و باحثين آخرين أن السعادة تؤثر على التفكير الإبداعي، وأثبتت بحوثهم أن الأشخاص السعداء يكونون أكثر استرخاء و منفتحين على أية تجارب جديدة، وهم أقدر من غيرهم على خلق أفكار جديدة تنساب في فكرهم دون أية عوائق.
وتأسيساً على هذه الدراسة والدراسات السابقة، فإن هناك علاقة وطيدة بين القدرة على تكوين الأفكار الخلاقة والشعور بالسعادة، ويمكن القول أن الأشخاص الذين يتمتعون بمراكز تحكم عالية يشعرون بالسعادة لدى قيامهم بخلق أفكار إبداعية جديدة ويشعرون بالفرح لدى قدرتهم على حل المشكلات، ويبقى التحدي أمام المهتمين بمجال ربط الإبداع بالسعادة، هو إيجاد العلاقة بين السعادة، وبعض أشكال الإبداع ومراكز التحكم.