مدخل:
لا تفرح بانتصارك لنفسك فهذا يعني أحياناً خسارتك في المستقبل!
تظهر مشاكل التفاوض عادة عندما يبحث كلا الطرفين عن مصالحهم الشخصية فقط، دون إعارة اهتمام كافي للآخرين أو بتأثير ذلك عليهم على المدى البعيد. وعادة ما تنتهي مثل هذه المفاوضات لصالح شخص على حساب الآخر. قد يقول البعض من الناس بأنهم يقدرون الحاجة إلى التعامل بمنهجية رابح رابح إلا أنهم لا يستطيعون العمل بها، فهم يريدون الانتصار لأنفسهم ويتعاملون بتنافس بدلاً من أن يكونوا حلفاء يسعون لمصلحة واحدة تعود بالنفع على الجميع، إضافةً إلى أن كل طرف لا يبادر بتقديم العرض الأول بل في مقابل ذلك يظل منتظراً من الطرف الآخر أن يتنازل، الأمر الذي يجعلهما يخوضان في منهج رابح- خاسر، أو كما يسميه البعض منهج مكسب – خسارة. ومثل هذا المنهج وإن قدم رضا لأحد الطرفين إلا أن هذا الرضا لن يتعدى كونه رضا مؤقت، إضافةً إلى أنه سيتسبب في خسارته لعلاقاته على المدى الطويل. وكما هو معروف مبدأ القوة لم يعد فاعلاً في البيئة الاحترافية.
ولتجنب مثل هذه المفاوضات الخاسرة، فإنه لا بد على أحد الطرفين أن يذكر الآخر بمنهجية المفاوضة الناجحة وأن الجميع لا بد وأن يخرج راضياً، وقد يكون لزاماً على أحد الطرفين أن يبدي سعيه لتحقيق النتائج التي يسعى إليها الطرفين بمفهوم رابح رابح، لاسيما أن هذا المفهوم سهل التقبل، حتى وإن كان البعض يجد في تطبيقه بعض الصعوبة.
نموذج أساليب التفاوض الأربع:
أنا أربح، وأنت تربح
أنا أربح، وأنت تخسر
أنا أخسر، وأنت تخسر
أنا أخسر، وأنت تربح
في رابح رابح المنفعة المتبادلة!
أتت فكرة ولغة رابح رابح من نظرية إحدى الألعاب الحسابية، حيث أن مخرجات هذه اللعبة رابحة لكلا الطرفين، أما رابح رابح في علم التفاوض فهي محاولة من جميع الأطراف إلى الوصول لاتفاقية مرضية لهم جميعاً عن طريق التعاون للوفاء باهتمامات كلاً منهم. وهذا يأتي مناقضاً للفكرة السابقة عن التفاوض والتي هي حرب بين الرغبات والتي عادةً ما تكون مخرجاتها إما "مكسب-خسارة"، أو "خسارة- خسارة". لذلك فإن أسلوب رابح - رابح ليس مجرد هدفاً اختيارياً بل ضرورة لا بد منها إذا أردا الطرفان الوصول إلى اتفاق مرضي.
حلول رابح رابح
"إذا كنت تستطيع أن تكتشف إذا كان ابنك ذو الأربع سنوات أم ذو الست سنوات أكثر استحقاقاً لآخر حبة توفي موجودة فإنك قادر على أن تفاوض أي عقد ".
حتى يصل الطرفين إلى نتيجة رابح رابح فإن على أحدهم التفكير في الحل الممكن الذي يجعل كلا الطرفين يغادر طاولة التفاوض وهو منتصر؟ فعلى سبيل المثال، ما هو السيناريو الذي تتوقعه بين الأم وأبنائها المتخاصمين على آخر حبة توفي؟ هل تستطيع الأم تقسيم حبة التوفي إلى قسمين؟ هل يستطيع أحد الطفلين تقسيم التوفي إلى اثنين وترك الفرصة للطرف الآخر ليختار؟ هل سيقبل طفل الأربع سنوات أن يأخذ التوفي الآن، فيما يأخذ طفل الست سنوات حبتين من التوفي بعد ساعة حين يعودون إلى المنزل؟ هل تستطيع الأم أن تأخذ التوفي الآن وينتظر كلا الطفلين أن يصلا إلى أي محل ليأخذا حبتين من التوفي؟ ومما يجدر التأكيد عليه أن الأم حين تأكل التوفي بدلا من الصبيين فهذا دليل أن مخرجات التفاوض بين الطفلين كانت سلبية لهما وأن كلا الطرفين قد خسرا.
ولنا في رسول الله أسوة!
ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في « صلح الحديبية » أروع أمثلة التفاوض الناجحة، وذلك حين تحرك من المدينة المنورة إلى مكة معتمراً فاعترضه كفار مكة، حيث جاءه « سهيل بن عمرو » للتفاوض وعقد الصلح مع المسلمين، واتفق مع رسول الله على الشروط التالية:
البند الأول: يرجع الرسول - صلى الله عليه و سلم- من عامه هذا، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض.
البند الثاني: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
البند الثالث: من أحب أن يدخل في عقد محمد - صلى الله عليه و سلم - وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
البند الرابع: من أتى محمداً - صلى الله عليه و سلم - من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد - صلى الله عليه و سلم ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه!ّ
في بادئ الأمر رأت جموع المسلمين في هذا الصلح، إذعاناً لقريش وتنازلاً عن كثير من حقوقهم رغم ما يملكونه من قدرةٍ على القتال وكان على رأسهم بعض كبار الصحابة، إلا أن رسول الله كان يعلم بوحيٍ من الله أين يكون الحق، وكان له ما أراد، فرسولنا عندما تفاوض على شروط الحديبية لم يتنازل عن هدف التفاوض الإستراتيجي بأداء مناسك العمرة، بل تنازل عن بعض صغائر الأمور دون أن يُغير الثوابت، فلم يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مشكلة في كتابة « بسمك اللهم » بدلاً من « بسم الله الرحمن الرحيم »، كما أنه لم يجد أي مشكلة في كتابة «محمد بن عبد الله » بدلاً من « محمد رسول الله »، لأن الثوابت باقية، فهو لم يكتب مثلاً بسم آلهة قريش، كما أنَّ هذا التغيير في الخطاب لم يُخسر المسلمين الهدف التفاوضي الأساسي وتم لهم أداء مناسك العمرة في أجواء آمنة وتحل ظل حراسة كاملة، إضافةً إلى أنَّ المسلمين كانوا بحاجة إلى هدنة مدتها عشرة أعوام بدون حروب للتفرغ للدعوة بأمان ونشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، وقد أجمع علماء المسلمين على أنَّ هذه الفترة كانت الفترة الذهبية للدعوة.