إذا زرعنا الأشجار في موطنها الأصلي فإنها ستكون أكثر قدرة على مقاومة الأمراض والآفات، وإذا تلاعبنا بأحد عناصر النظام البيئي فإنه سيختل، والأمر نفسه يحدث في بيئة العمل ، فأي خلل يحدث في أي جزء فإنه يؤثر على بيئة العمل كاملة.
إن المؤسسة الابتكارية، والمؤسسة الذكية، والمؤسسة الرائدة، جميعها ألقاب تحفز أصحاب المؤسسات على الجدية في العمل والمثالية في الأداء والجودة العالية، والأهم منها جميعاً تأتي الابتكارية في المنتج، وذلك تحقيقاً للسعي نحو الريادية والصدارة في عالم الأعمال. ولكن يبقى الأساس الأول لنجاح أي مؤسسة هو الفرد، فقد أدركت المؤسسات أن استقطاب الفرد المبدع الجاد الناجح أمر في غاية الأهمية، لذا عمدت المؤسسات إلى ملاحقة المتفوقين والباحثين والمخترعين لإثراء المؤسسه بالمعرفة اللازمة للصمود والنجاح، إلا أن استقطاب الفرد المبدع والمتميز لا يمكن أن يكفل وحده نجاح المؤسسة ما لم تكن هناك بيئة داعمة تتبنى استراتيجيات التحفيز المستمر وآليات التشجيع والدعم. فالإبداع يحتاج إلى ما يثيره دوماً، والحماس قوة معنوية قد تخمد إن لم تجد الدعم والإثارة. وتأكيداً لما سبق فقد أثبتت الدراسات أن نجاح وصمود أي منظمة يكمن في أفرادها أكثر مما يكمن في نظمها أو إجراءاتها أو أصولها أو مواردها، وعليه فإن المنظمة القادرة على رفع الروح المعنوية للأفراد تكون أكثر قدرة على تدعيم مركزها التنافسي ومقابلة التحديات وتنمية روح الإنجاز وتطوير الأداء.
ركائز البيئة المحفزة للإبداع:
• الحاجة للتشجيع والتقدير
لاشك أن الحاجة للدعم والتشجيع والتقدير حاجة بشرية طبيعية، إلا أن هذه الحاجة تتأكد كلما كان الفرد على رأس مسؤولية عظيمة، حيث تتطلب منه تفكيراً مختلفاً وجهداً مكثفاً ومنتجاً ابتكارياً لم يتعرف إليه أحد من قبل . فمثلا يختلف الأفراد المبدعون عن غيرهم في تفضيلهم للتقدير المعنوي أكثر من التقدير المادي، خاصة إذا كان هذا التقدير يتمثل في الفوز بأحد الجوائز العالمية، كجائزة نوبل مثلا، فهذا يعني أكثر مما يعنيه أي مبلغ مادي مهما كان قدره.
•حرية العمل في مجال الاهتمام
في حين يركز الفرد الذي يتمتع بمهارات التفكير التحليلي على اتجاه واحد، فإن من يتمتع بمهارات التفكير الإبداعي دائماً ما يتساءل في كل اتجاه محتمل ومعقول، لذا فإن تهيئة البيئة المرنة التي تتيح حرية الانتقال من توجه إلى آخر شرط ضروري ومطلب مهم للعمل الإبداعي، حيث تزداد فعالية أداء الفرد إذا ما أتيحت له الفرصة كي يختار بنفسه مجال العمل المناسب لاهتمامه بشكل أعمق.
بالإضافة إلى ما سبق؛ هناك دور هام للتنظيم داخل المؤسسة الابتكاريه؛ وبالتالي فإن جميع أوجه التحفيز على الإبداع يجب أن تظهر في رسالة وأهداف المؤسسة الابتكارية.
يقول لويس ليهر (Lewis Lehr):
"هناك نصيحة في تربية المبدعين الصغار تقول: لا تقدم كتباً تحوي رسومات كي يلونها الأطفال، ومن ثم تطالبهم بأن لا يلّونوا خارج حدود الرسومات، الأمر نفسه بالنسبة للإدارة؛ حيث أن مطالبتك للمبتكرين في مؤسستك بأن يبقوا داخل الحدود يعد تناقضاً. قد يُعد التوصيف الوظيفي والتعليمات المفصلة حول كيفية عمل الشيء أحد هذه الحدود، وتعلمنا منذ زمن مضى أنك إذا وضعت العديد من الأسيجه حول العاملين لديك فإنهم سيتحولون إلى قطيع من النعاج، و لن تسمع بعد ذلك عن أي براءات اختراع لإحدى الشركات !."
لقد آمنت الإدارة العليا في إحدى الشركات بأهمية الحرية ودورها في إثارة الحماس والأفكار الإبداعية، لذلك شجعت فريقها التقني ليقضي 15 بالمائة من وقته على مشاريع من اختيارهم الشخصي. بعبارة أخرى، قامت الشركة بإعطاء فريق العمل لديها حرية العمل في مشاريع صغيرة، بحيث يستطيعون الشروع في العمل دون انتظار أخذ موافقة الإدارة.
في حين أسست بعض الشركات الحساسة مساراً وظيفياً للأفراد المبدعين مفصولاً عن السّلم الإداري، بحيث يسمح لهم بالقيام بأعمالهم في جو من الحرية، ويتم التعامل معهم كأفراد مشاركين لا موظفين تنفيذيين. فبالرغم من أن البعض قد ُيفضل المناصب التنفيذية و يحلم بأن يكون مديراً إداريا،ً إلا أن البعض الآخر لاسيما المبدعين يفضلون أن يكونوا مجرد أفراداً مشاركين، إذا كان ذلك سيضمن لهم الحرية في التفكير واختيار أسلوب العمل، وبناء على حريته تلك سترتبط مكافأته وترقياته مباشرة بقدر إبداعه وإنتاجيته.
• فريق عمل جماعي محفز
يقول الحديث النبوي الشريف "يد الله مع الجماعة"، وهذا بالضبط هو ما أثبته العلماء، حيث قالوا بأن المبدعين وإن كانوا يميلون إلى الوحدة في الوسط الاجتماعي، إلا أنهم يحتاجون أحياناً إلى أجواء عمل جماعية محفزة، مثل عقد حلقات النقاش وجلسات العصف الذهني لطرح الأفكار ونقدها وتبادلها . فمثلاً، إنَّ فكرة ما، يُقدمها أحد أفراد المجموعة قد تثير فرداً آخر وتوحي له بفكرة ابتكاريه رائدة. لذلك من المفترض أن تعزز بيئة العمل هذه التفاعلات الجماعية بشكل رسمي أو غير رسمي، مثل تخصيص صالات يلتقي فيها الموظفون لأجل الشاي والقهوة، لما تلعبه هذه اللقاءات العشوائية من دور كبير في إثراء الأفكار وتمازجها.
ولا ننسى أن جميع ما سبق لا ينفي أهمية توفير قدر من الاستقلالية والخصوصية للفرد وإعطاءه الفرصة ليكون وحيداً متى ما شاء، و لا يُفرض عليه أن يكون دائماً عضواً من مجموعة.
• الابتكار مغامرة
يقول العلماء بأن الأشخاص المبدعين هم الذين يستجيبون بشكل جيد للمؤسسة التي تشجعهم على خوض المخاطر، فإذا لم يعمل الفرد على حافة الفشل فإنه لن يقترب من النجاح الحقيقي.
...
وقطعاً لم يبق سوى أن نذكر بأن الفرد المبدع طاقة، وأنه مهما بلغ إبداع هذا الفرد وطاقته فإنها قد تنضب إذا لم تُهيَّأ لها البيئة المحفزة، لذلك وقبل أن تستقطب الفرد المبدع في منظمتك فلا بد من الاهتمام ببيئة العمل وتطويرها بما فيها الأسلوب القيادي ونمذجته بحيث يتوائم مع مستوى توقعات هذا الفرد ويتناسب مع درجة إبداعه، ويكون بالتالي عاملاً مساعداً ومحفزاً لتنشيط قدراته الإبداعية.
إن 50% من التحفيز والتشجيع يكمن في داخلنا، ويظهر ذلك من خلال استجابتنا لحاجاتنا الداخلية وتوجهاتنا وقيمنا، في حين تكمن الخمسين بالمائة الأخرى في البيئة المحفزة، وبالأخص في أساليب القيادة، الأمر الذي يعزز دور القادة في التأثير على مستوى الفرد، وبالتالي دورهم في نجاح المؤسسة وتميزها.
وهذا، يؤكد حاجة القادة إلى أن يفهموا كيف يفكر الفرد المبدع أو المبتكر؟ وماذا يريد؟، فمِمَّا لا شك فيه أن الأشخاص المبدعين هم بذور لغراس المستقبل، لذلك تأكدت أهمية استقطابهم كأحد عوامل نجاح أي قطاع أو منظمة، ولكن يبقى الأمر الأهم ليس فقط –استقطاب المبدعين- وإنما كيفية الاعتناء بهم وأسلوب رعايتهم حتى لا يفقدوا إلإهام والحماس.