مقالات
 
   
   
 
 

 
 
share on facebook   Tweet    
 
 
 
 
 

لا تكنْ مبدعاً بل...

الكاتب:
نوفل عبد الهادي المصارع
 

 

يتفق كثيرٌ من المفكرين المعاصرين بأن العالم من حولنا أصبح يتصف بالتعقيد البالغ في جميع الاتجاهات والمجالات، وحتى نحس بذلك العالم ونفهمه نحتاج إلى نظام ذهني وفكري معقد أيضًا ليتعامل معه، وهذا يتمثل في عقل الإنسان. ومن رحمة الله -سبحانه وتعالى- أن جعل لنا أنظمة فكرية كثيرة ومتنوعة، وهذا ما أثبته علم النفس المعاصر؛ لنتعامل مع بيئتنا الداخلية المتمثلة في النفس، ومع بيئتنا الخارجية المتمثلة في الآخرين وظروف الحياة المتغيرة. التحدي الذي أراه الآن هو في التعامل الإنساني مع هاتين البيئتين الأكثر تعقيدًا؛ إذ نراهما من خلال العقل -الذي نراه على أنه أجزاء عقلية غير مترابطة- مما يضعف من النتاج الفكري الخاص بنا، ولكن لو أننا نتعامل بها مع العقل على أنه منظومة مترابطة من الأنظمة الفكرية، وبأن مجموع تفاعلاتها المتغيرة (Dynamic) يساوي العمق الفكري لنا، لما قلَّلنا من شأننا بعد اليوم، وانشغلنا بذواتنا تنميةً وإنتاجًا، ولرأينا بأن الناتج الفكري يوازي على الأقل إمكاناتنا المتاحة التي لا يعلمها إلاّ الخالق. وأود التركيز هنا على القول الشائع في مختلف المجالات بأن الإنسان حتى يحقق أهدافًا مطلوبة بأساليب جديدة يجب عليه "التفكير خارج نطاق الصندوق" (Thinking outside the box)، وتقول موسوعة ويكيبيديا (Wikipedia) إن هذا القول يعني رؤية الأمور من خلال نظرة جديدة دون افتراضات مسبقة.


 إن مقولة "التفكير خارج نطاق الصندوق" قد تعطي انطباعًا آخر غير مقبول أو حتى خاطئ في نظري؛ وذلك لاعتقادي القوي بأن الإنسان وقبل أن يكون مبدعًا -بمعنى أن يرى المألوف بطريقة غير مألوفة- عليه أن يركز على المألوف؛ ليألفه، ويفهم معانيه، ويقدر على تفسيره، قبل القفز إلى معانٍ أخرى جديدة واستخدامها فقط لأنها جديدة ومختلفة. بسياق آخر.. إن كان الصندوق يمثل المساحة الفكرية التي يتمتع بها الإنسان بحسب قدراته العقلية وحالته النفسية، فأرى هنا عدم استخدام كلمة "خارج" وتغيير الجملة برمتها إلى (Expanding your box) أي توسعة الصندوق بدلًا من التفكير خارجه؛ وذلك لسبب بديهي لا يخفى على أحد؛ وهو أننا لا نستطيع التفكير خارج صندوق أصلًا لا نعرف حجمه الحقيقي؛ إذ أن العمق الفكري للإنسان أعمق مما نعتقد أو نظن في غالب الأحيان كما أوضحت في المقدمة، لذا فإن استخدام أنماط فكرية جديدة والذهاب بالعقل إلى مكان جديد من خلال القراءة والسمع والنظر والمناقشة والتجربة والمشاركة، ومع التفكير العميق والمُوجه الذي لا يخالف القرآن الكريم ولا السنة النبوية المطهرة سوف يعطي معطيات جديدة بلا شك. إن الإبداع الحقيقي هو الذي يكوِّن انعكاسًا للواقع الذي نعيشه، وقد فهمنا خباياه، وحللنا علاقاته، واستفدنا من نتائجه، ومن ثم نصل إلى مرحلة تفاعلية قوية مع البيئة المحيطة، وهنا يكون الإبداع ضروريًا حتى ينقلنا إلى مستوى حضاري جديد ندرك به الأشياء بطريقة جديدة، ونربطها بشكل استثنائي ومغاير مع بعضها، حتى نصل إلى نتائج جديدة كليةً، تثري واقعنا الحالي، وتجعل الطريق لفهم المستقبل أسهل وأفضل، حتى نُحسّن منه قبل أن يأتي، ونكون مستعدين له إن أتى. الإبداع في رأيي ما هو إلاّ أداة نستخدمها عند الحاجة، ويجب ألاّ نتعب النفس ونجهدها بإبداعات لا تحاكي الواقع الذي نعيشه، ولا تصل بنا إلى نتائج ملموسة ومشاهدة تثري هذا الواقع وترتقي به، لذا فإن الكلمة التي أراني ألاطفها دائمًا وأودها لو ترضى عني حتى تلازمني بكل المواقف والظروف هي المرونة (Flexibility). وتُعرفها بعض المعاجم على أنها مرونة الطبع وليونته. وأنا أُعرِّف المرونة على أنها القدرة على رؤية فرصة أو أكثر في الماضي أو الحاضر أو المستقبل في كل موقف وظرف بغض النظر عن أهميته وتعقيداته، ومن ثم اختيار فرصة واحدة أو أكثر مع كل احتمالاتها (Possibilities) المتوفرة ودمجها مع تكويناتنا الشخصية واستعدادنا النفسي والجسماني، ومن ثم تكوين محتوى معين نضعه في سياق ثابت، خلال وقت محدد، في مكان ملائم، لتحقيق هدف مطلوب للوصول إلى نتيجة مرغوبة. ولنأخذ المثال التالي حتى يتضح المعنى أكثر: وقت الفرصة: المستقبل. وصف الفرصة: استثمار مبلغ تعويض التقاعد المبكر الذي تعمل به بعض الشركات الخاصة. الهدف من الفرصة: تأسيس مؤسسة تجارية ذات مسؤولية محدودة، يرتكز نشاطها على السياحة والسفر، وهو نوع من المؤسسات الخدمية. نوع الفرصة: مالي وتجاري. الآن... دمج هذه الفرصة مع تكويناتنا الشخصية واستعدادنا النفسي والجسماني يرتكز على الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها: - هل هذه الفرصة تتعارض مع قيمنا التي نؤمن بها؟ - هل تتوافق مع شغفنا للعمل؟ وهل سنحقق من خلالها هدفًا رئيسًا في حياتنا؟ وهل نتائجها المتوقعة مطلوبة ونحب أن نراها؟ - هل لدينا الاستعداد الذهني لهذا النوع من المؤسسات الخدمية؟ وهل نحن مستعدون نفسيًا لتحمل تبعات التعامل مع الناس في هذا النوع من المؤسسات؟ - هل صحتنا العامة تتحمل العمل مرتين في اليوم؟ وهل نستطيع أن نتحمل ضغوط العمل؟ محتوى الفرصة: هو معرفة تفاصيل هذه الفرصة وفهمها. فمثلًا معرفة القوانين والإجراءات لإنشاء هذا النوع من المؤسسات، وأيضًا رؤيتنا والأهداف التي نود تحقيقها من هذه المؤسسة، فضلًا عن خطتنا الإستراتيجية التي تحقق لنا النتائج المرغوبة، وهكذا... سياق الفرصة: يعني أن جميع الجهود المبذولة في محتوى الفرصة لا بد لها من أن تنحصر في إطار هذه الفرصة وحدودها؛ إذ أن هذه الجهود بينها علاقة منطقية تتفاعل من خلالها، ولكنها -وهذا هو المهم- تحدث ضمن ظروف متغيرة في بيئة معينة، لذا فكلما عرفنا هذه الظروف وأدركناها وجدنا أنفسنا أكثر مرونةً ونجاحًا، واتّصف عملنا بالتركيز والمثابرة. أما الوقت المحدد للفرصة فيتعلق بتحديد بداية تنفيذها والتقيد به، وأما المكان الملائم فأقصد به البيئة المناسبة لهذه الفرصة لتنمو وتكبر وتزدهر. بعد هذا كله نبذل الأسباب لتحقيق الهدف الرئيس من هذه الفرصة، والتوفيق من الرحمن، حتى نصل بعد ذلك إلى نتيجة مرغوبة. وأود التنبيه على أن تحقيق الهدف في حد ذاته لا يعني النجاح، ولكن تحقيق النتيجة المطلوبة هو الأهم، والقاعدة هنا تنص على أن "من يحقق هدفًا معينًا ليس بالضرورة يحقق نتيجة مطلوبة، ولكن من يحقق نتيجة مطلوبة ومحببة فهو بالتأكيد قد حقق هدفًا أو أهدافًا". إن عدم التعامل مع فرص الحياة بطريقة فاعلة وجدية من خلال مرونة إيجابية يفقدنا ملامسة الكثير من الاحتمالات التي تزيد من اختياراتنا وتثريها في المواقف المختلفة، وأزيد أيضًا بأننا يجب أن نقرن الفرص المتاحة بقيمة مضافة لنا، وكذلك الإبداع يجب أن يكون موجهًا لفوائد ترتقي بها النفس ومن ثم المجتمع، وأعتقد أن "عدم الإبداع أحيانًا يُعدّ إبداعًا في حد ذاته"، لذا أقول: "كن مرنًا كل الأوقات، وكن مبدعًا في بعض الأوقات، وعند الحاجة فقط"، أما إن استطعت أن تدمج الإبداع بالمرونة والمرونة بالإبداع فقد أصبحت قيمةً مضافةً لهذه الحياة، وتركت إرثًا لا يُنسى.

 
عدد التعليقات 6
6237
 

التصنيف:
تنمية التفكير
 
كلمات البحث:
 

Cannot create an object of type 'System.Int32' from its string representation 'AllNewsCommentsUserControl1' for the 'Id' property. 
at System.Web.UI.TemplateParser.ParseString(String text, VirtualPath virtualPath, Encoding fileEncoding) at System.Web.UI.TemplateParser.ParseFile(String physicalPath, VirtualPath virtualPath) at System.Web.UI.TemplateParser.ParseInternal() at System.Web.UI.TemplateParser.Parse() at System.Web.Compilation.BaseTemplateBuildProvider.get_CodeCompilerType() at System.Web.Compilation.BuildProvider.GetCompilerTypeFromBuildProvider(BuildProvider buildProvider) at System.Web.Compilation.BuildProvidersCompiler.ProcessBuildProviders() at System.Web.Compilation.BuildProvidersCompiler.PerformBuild() at System.Web.Compilation.BuildManager.CompileWebFile(VirtualPath virtualPath) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResultInternal(VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean throwIfNotFound, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResultWithNoAssert(HttpContext context, VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean throwIfNotFound, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResult(HttpContext context, VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.UI.TemplateControl.LoadControl(VirtualPath virtualPath) at MawhibaMainWebPart.MawhibaMainWebPart.loadUserControl()