مقالات
 
   
   
 
 

 
 
share on facebook   Tweet    
 
 
 
 
 

صناعة الابتكار: الفضول المعرفي

الكاتب:
أحمد زويل
 

 

أثناء زيارتى لجنوب شرق آسيا سألني رئيس وزراء: «ما الذي نحتاجه للحصول على جائزة نوبل؟» فأجبته مباشرة: «استثمر في الأبحاث الأساسية واستقطب أفضل العقول».

 

ويبدو أنه في العصر الحديث يتراجع العقل الذي تقوده الرغبة في المعرفة، أو الفضول العلمي، إذ يعتقد البعض أنه بوسعهم أن يحققوا التقدم من خلال التركيز على مجالات أبحاث بعينها، وكأن بوسعهم أن يتنبؤوا بالمستقبل وبأهمية تلك المجالات فيه، وأعتقد أن أسلوب التفكير هذا بمثابة «سوء فهم» يؤثر على ماهية المعرفة ويؤذي تمويل الأبحاث.

 

وأسمع باستمرار، خاصة في البلاد النامية، جملة «الأبحاث التطبيقية هي ما نحتاج»، وعلى الرغم من أنه من الجيد أن يكون لدى دولة ما برنامج للأبحاث والتطوير في مجالات معينة لحل مشكلات تواجهها تلك الدولة أو لتحقيق تقدم لافت في أحد المجالات مثل استكشاف الفضاء أو البحث عن الطاقة البديلة، إلا أنني أوضحت خلال زيارتي المتنوعة كمبعوث علمي للولايات المتحدة أنه بدون الالتزام بالاستثمار القوي في التعليم العلمي مع وجود قاعدة علمية أساسية، فإن الدول لن تتمكن من الحصول على المعرفة التي تمكنها من إنتاج الاختراعات والاكتشافات، التي تسهم بدورها في تشكيل مستقبل الأمم.

 

وهناك العديد من الأمثلة على اختراقات علمية تحققت بسبب الأبحاث التي يُحركها الفضول، ففي عامي الأول كعضو في هيئة التدريس في جامعة «كالتك»، في 1976، تناقشت أنا وريتشارد فينمان، العالم الشهير الحائز على جائزة نوبل في الطبيعة، حول ورقة علمية نشرها قبل 20 عاماً عن بصريات الكم «quantum optics »، وهذه الورقة العلمية فتحت أبواباً كثيرة في عدة مجالات بما فيها إمكانية التأثير والتحكم في التفاعل بين الليزر والمادة.

 

ووقتها قال فينمان لي إنه لم يكن يعرف التأثير الكبير لهذا البحث، وإن كل ما كان يشغله هو الفضول عن المفارقة في التأثير الليزري من جهة والمجال المغناطيسي من جهة أخرى على المادة نفسها، وأنه عندما انتهى من المعالجة النظرية وجد العلماء تطبيقات متعددة وكثيرة.

 

ولعل المثال الأكثر شيوعاً هو ابتكار الليزر نفسه في عام 1960، ففي الاحتفال باليوبيل الذهبي لهذا الابتكار اجتمع الحاصلون على جائزة نوبل، في باريس، ومن بينهم تشارلز تاونز، قال العالم الكبير إنه كان يبحث في طيف الموجات الطويلة (MICROWAVES )، وكيف يمكنه تكبير الأشعة الضوئية، وهنا ولدت فكرة الليزر وخرج الشعاع الضوئي لأول مرة.

 

والآن تعد صناعة الليزر سوقا عالمية بالمليارات حيث يستخدم في مجالات عديد من بينها الطب والصناعة والزراعة والدفاع.

 

وفى الاحتفال نفسه الذي أقيم في متحف اللوفر في باريس، كان حديثي عن رحلة نوبل وما بعدها، وأخبرت الحضور بأن الفضول هو الذي قادني إلى علم الفيمتو، وأن الفضول نفسه هو الذي مكننا من اختراع الميكروسكوب رباعي الأبعاد الذي يجعل من الممكن مشاهدة المادة بجميع أبعادها (الثلاثة) مع إضافة الزمن كبعد رابع.

 

وهناك العديد من الاختراعات والاكتشافات التي تم التوصل إليها بأساليب مشابهة، لعل أبرزها الخريطة الجينية للإنسان، كما أن هناك اكتشافات تم التوصل إليها من خلال الفضول العلمي حول نظرية الكم ودوران الإلكترونات، ومن بينها تصوير الرنين المغناطيسي (MRI ) الذي أصبح أساسياً في التشخيص الطبي، كما أتى الترانزستور وثورة المعلومات الناتجة عنه من خلال الفضول حول كيفية تحرك الإلكترون في أشباه الموصلات.

 

ولاشك أن ناتج تلك الاكتشافات في التطور الصناعي والطبي وفى صناعات تكنولوجيا المعلومات تعد الآن العامود الفقري للاقتصاد وللاتصالات الدولية، ويعد الفضول المعرفي المحرك الرئيسي الذي أدى للتطورات الفكرية والابتكارات.

 

كيف إذن يمكننا أن نشجع مثل هذا الشكل من الأبحاث المبنية على الفضول؟.. الأبحاث التي يحركها الفضول تحتاج مبدئياً إلى علماء مبدعين يعملون في بيئة تشجع على التعاون بين الباحثين وتؤلف بين المجالات المختلفة، ولكن يجب ألا يتم تقييد هذا المناخ بالإدارة الرتيبة والجامدة، حيث إن العقول المبدعة لا تعمل جيداً مع البيروقراطية.

 

وبالتالي لابد أن نسأل: هل هناك معادلة معينة لإدارة صناعة الاكتشافات والاختراعات؟ وتكمن الإجابة في الاقتناع بثلاثة مبادئ:

 

■ الأول، والأكثر أهمية، هو البشر أنفسهم، فمنح الأهمية الملائمة لتأسيس وتشجيع التعليم المُلهم في العلم والتكنولوجيا والرياضيات والهندسة ضروري، حيث يجب أن تستقطب مجالات الأبحاث أفضل العقول الشابة، فالمباني الضخمة والتمويل الغزير لن ينتجا الكثير في ظل عدم وجود الأشخاص المناسبين.

 

■ ثانيا: إن خلق مناخ من التبادل المعرفي يعد من أهم الأساسيات لبلورة الأفكار بشكل واضح، فإنهاك الباحثين في البيروقراطية وكتابة عدد كبير ومكثف من التقارير في الجامعة أو تحويلهم لإداريين متفرغين هو بمثابة بداية النهاية للتقدم.

 

وأصبح النظام الحالي في إدارة الأبحاث معقدا ومتشابكا، وهو ما يبرز الحاجة لمراجعة نظام التمويل التقليدي، ليكون السؤال: كيف يتم اختيار وتمويل الباحثين المميزين؟ وما مستوى التمويل اللائق لتحقيق الفائدة للمجتمع؟

 

■ ثالثا: بدون الموارد فإنه لا يمكن تحقيق الكثير، فمهما كانت العقول مبدعة فإن التمويل ضروري لتصنيع الأدوات اللازمة للابتكار ولتوظيف الأطقم المساعدة للباحث المبدع، فالدول والمؤسسات التي تقدم البنية التحتية الملائمة وتمول تنفيذ الأفكار الإبداعية ستكون موطناً للابتكارات، ولكن هذا البناء والتمويل يجب أن يأتي بعد الحصول على الباحثين الخلاقين، لا أن يكون الأساس هو إدارتهم للحصول على المال من جهة معينة أو إجبار الباحث على العمل من أجل «موضة» متداولة مثل ما يفعله الكثيرون تحت شعارات الـ«نانو تكنولوجى» والـ«بيو تكنولوجى».

 

ويوجد العديد من المسؤولين في الدول النامية الذين يأملون في الوصول إلى نفس مستوى وكم الابتكارات الموجود في العالم المتقدم، وخلال سعيهم هذا يهملون المفتاح الرئيسي وهو التعليم المبنى على الفهم والطريقة العلمية ووضع قاعدة رئيسية واسعة للبحث عن الحقيقة، وللأسف فإن بعض الدول المتقدمة بدأت تقوم بالأمر نفسه، وعلى القادة السياسيين أن يعلموا أن الرغبة في اكتشاف معارف جديدة هو ما يُنتج الاختراعات والاكتشافات، وأنه بدون تلك الرغبة وإلإرادة القومية فإن الشباب الواعدين لن يكونوا منجذبين للإبداع والاختراع وخدمة وطنهم.

 

لقد حالفني الحظ، خلال الثلاثين عاما الأخيرة، بالعمل في منظومة لها عقيدة في تلك القيم، وعلى الرغم من ضغوط التغيير فإنني أتمنى أن تبقى جامعة «كالتك» على دربها، وهى كما وصفها زميلي ورئيس الجامعة السابق ديفيد بالتيمور «قرية للعلم».

 

فحفظ المعرفة أمر سهل، ونقلها أيضا أمر سهل، ولكن صناعة معرفة جديدة ليست بالسهل، وليست مربحة على المدى القصير، غير أن التاريخ أثبت للجميع أن المعرفة أساس النهضة والتقدم، كما أنها قوة تثرى أى مجتمع وتجعله قائما على المنطق والحقائق الأساسية.

 

 

المراجع:

 

نقلا عن مقالة افتتاحية تحت عنوان رؤية عالمية لمجلة «NATURE » العالمية (نشرت في 18-11-2010).
وهنا رابط المقال الأصلي في مجلة Nature الشهيرة


http://www.nature.com/news/2010/1011...l/468347a.html

 
عدد التعليقات 5
6194
 

التصنيف:
تنمية التفكير
 
كلمات البحث:
 

Cannot create an object of type 'System.Int32' from its string representation 'AllNewsCommentsUserControl1' for the 'Id' property. 
at System.Web.UI.TemplateParser.ParseString(String text, VirtualPath virtualPath, Encoding fileEncoding) at System.Web.UI.TemplateParser.ParseFile(String physicalPath, VirtualPath virtualPath) at System.Web.UI.TemplateParser.ParseInternal() at System.Web.UI.TemplateParser.Parse() at System.Web.Compilation.BaseTemplateBuildProvider.get_CodeCompilerType() at System.Web.Compilation.BuildProvider.GetCompilerTypeFromBuildProvider(BuildProvider buildProvider) at System.Web.Compilation.BuildProvidersCompiler.ProcessBuildProviders() at System.Web.Compilation.BuildProvidersCompiler.PerformBuild() at System.Web.Compilation.BuildManager.CompileWebFile(VirtualPath virtualPath) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResultInternal(VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean throwIfNotFound, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResultWithNoAssert(HttpContext context, VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean throwIfNotFound, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.Compilation.BuildManager.GetVPathBuildResult(HttpContext context, VirtualPath virtualPath, Boolean noBuild, Boolean allowCrossApp, Boolean allowBuildInPrecompile, Boolean ensureIsUpToDate) at System.Web.UI.TemplateControl.LoadControl(VirtualPath virtualPath) at MawhibaMainWebPart.MawhibaMainWebPart.loadUserControl()